جاد الغيث |
تتقاذفك المشاعر، تعدها على أصابعك فتُحصيها، وإذ بها أكبر بكثير من أن تحصى!
تُعلمك الحياة فجأة أن هناك ما لا يُجمع ولا يطرح ولا يقبل القسمة، فالحياة ليست معادلة رياضية، لتكتشف صدفة أنك أنت فقط ما يقبل القسمة على اثنين أو على أربعة أو عشرة أو مئة، وأن في داخلك مشاعر وأشياء لا تستطيع أن تسميها أحيانًا، تزيد وتنقص وتسبب لك الضيق حينًا وتشل ساقيك حينًا آخر، وترتب ما كان فيك، فقسمك إلى قطعتين غريبتين عن بعضهما، حين فقدت قريتك وبيتك أو مدينتك، وبعد طول ثورة وتضحية تشتاق للمكان الذي كبرت فيه وعشقت أدق تفاصيله،
تشتاق للقبور التي لم تعد تستطيع أن تزورها، للهواء المفترض أن يجمعك مع رفاقك وأحبتك.
تحن بشدة حتى للجرح الباقي على العهد دائمًا، الذي لا يتوقف عن النزيف!
وتأتيك حلب بكل ما فيها، كعروس مزقوا ثوب زفافها، ولطخوا وجهها بالدم، تطفو على سطح الذاكرة، أزقتها الضيقة ودكاكينها المهدمة، أسواقها، قلعتها، أضواء مصابيحها الصفراء في ليل شتوي بارد، ربما تفتقد في الجزء المعذب من داخلك أصوات البراميل المتفجرة التي سرقت عائلات بأكملها، ودمرت حياة وذكريات بأحلى ما فيها.
الأرض المحروقة والسماء المتفجرة والأحلام التي وُئدت في تلك البقعة التي قد لا تعني شيئًا لأحد سواك، تلك الحروف الثلاثة (حلب)، إذا اختفى الحرف الأول، فأنت في (لب) المأساة، وإذا اختفى الثاني، يضنيك (حب) لا حدود له، وإذا اختفى الثالث، يأتيك (حل) بلا حل!
تُرتب وتُبعثر ما تكسر فيك ولا تدري كيف تُرتب، ولا تعرف كيف تتعايش مع التقبل الساذج لحلمك في أن تكون حرًّا في أرض صغيرة، تتقلص شهرًا بعد شهر، ويومًا بعد يوم، كأن الأرض ضاقت عليك بما رحبت!
أرض محروقة، وتراب شرب دم إخوتك وأصدقائك وجيرانك فصار أغلى كنوز الدنيا.
تتفاجأ بأمور بدهية لم تُلقِ لها بالاً من قبل، تتفاجأ بالنضج الموجع الذي سكنك فجأة
وأنت تتذكر الهجرة التي عاشها سيد البشر، ذكرى كنت تقرأها في كتب السيرة فقط، واليوم تعيش تفاصيلها وأوجاعها ومآسيها وأنت تقتلع خيمتك من مدرسة غدًا تستقبل تلاميذها، لتدق أوتاد الخيمة في أرض زيتون مباركة وقلبك مليء بخشية الشتاء القادم بعد شهرين على الأكثر، والخوف من أمطاره يقتلع خيمتك في المنام، قبل أن تجرفها السيول الحقيقية القادمة.
تدمع عيناك وأنت تستغيث من قلبك برحمة الله التي وسعت كل شيء، ولعل الشيطان يوسوس لك بعكس ذلك، وأنت تشهد طوابير لا تحصى من سيارات محملة بالنازحين وأمتعتهم المرهقة خوفًا وحزنًا وفزعًا.
وفي المساء تتابع نشرات الأخبار، لا شيء سوى تصعيد القصف، وتخاذل العالم، وزيادة في أعداد الشهداء و الجرحى.
لا شك حينها أنك ستُفكر بالرحيل، فمهما كانت ذكرياتك متجذرة في بلدك فلن يكون وطنًا إن لم يمنحك حقوقك بصفتك إنسان، ومهما كان حقه عليك عظيمًا فسيسكن داخلك، لكنك لن تسكن داخله إلا إذا حفظ كرامتك، ومنحك الأمن والاستقرار والعمل الكريم! وعليه يمكن أن نفهم سبب إلقاء مئات الآلاف بأنفسهم في البحر هربًا من الوطن.
لكن لماذا لا تستمر في الجهاد؟! يجب أن تعلم أن من أعلى درجات الجهاد، جهاد الخيبة والحزن، جهاد التخلي والخذلان، جهاد الترفع رغم التعلق، جهاد التمسك بالنقاء رغم التلون، جهاد ضد اليأس لمتابعة الطريق والسير مع أهل الحق حتى النهاية، ومهما كان الدرب طويلاً ومهما تعثرت.
اللهم لا صديق يصدقنا، ولا مدينة تلم شعثنا، لا مروءة عربية نستودع بها قلوبنا، لا شيء إلا هذا القلب الضعيف الذي بين يديكَ.