د. أحمد خيري العمري |
من منكم يذكر أسماءً قِيل عنها يومَ ظهرت أول مرة إنها “واعدة” ثم لم تسمع عنها شيئًا بعدها؟
في كل المجالات: الفن، والأدب، والرياضة…في كل مجال يمكن أن يكون فيه نجاح، هناك الكثيرون ممَّن يحوزون على لقب ” واعد”، وقليل منهم يحققون الوعد بالفعل.
فلنتذكر مثلاً برامج المسابقات الفنية التي حازت على شهرة كبيرة في العقد الأخير، ففي كل سنة كان هناك أكثر من مرشح يحوز على اللقب ويعِد بالكثير، من منهم حقق ذلك فعلا؟ تقريبًا لا أحد منهم حقق ذلك، هناك عدد قليل جدًا منهم يمكن أن يذكر: لا يزال مستمرًا، ألبومات وحفلات، ولكن عادي، لا شيء مهم أو مختلف عن سواه، ولا تزال مشاهداتهم الأعلى هي التي حققوها بأداء أغاني مشهورة أثناء المسابقات وليست عن أغانيهم الخاصة..
حتى عالميًا: سوزان بويل أبهرت العالم بصوتها قبل قرابة العشر سنوات (في Britains got talent) وقدمت عدة ألبومات ناجحة، لكن كلها كانت ألبومات قدمت أغاني كلاسيكية معروفة بصوت بويل.. الناس لم تكن تُريد أن تسمع أغاني لسوزان بويل، بل تريد أن تسمع أغاني تحبها بصوت بويل، والفرق كبير..
هؤلاء موهوبون بلا شك، لكن الموهبة لا تكفي للنجاح.
في الحقيقة: أكثر ما يُهدر هو الموهبة، لذلك كلما رأيت موهبة فأنت ترى فرصة كبيرة للهدر والضياع. للأسف هذا هو الذي يحدث.
هذا أكثر ظهورًا في الفن ” خصوصًا الغناء” لأنَّه أمر منتشر شعبيًا وواضح، لكنه يحدث في كل المجالات..
متطلبات النجاح تتضمن الموهبة بالتأكيد، لكن تتعداها أيضًا…سيُقال ” العلاقات العامة” وهي إشارة قد تُفهم بشكل سيء، لكنَّها صحيحة ولا تعني شيئًا سيئًا أو معيبًا بالضرورة، هناك الشخصية والحضور والذكاء الاجتماعي، وهذه كلها أساسية وغيابها يؤثر حتمًا على الموهبة، فلنقل إن هذه تؤثر على الحصول على دعم موهوبين آخرين لجعل الموهبة أنجح وأبرز.. يُقال مثلاً، مثلاً يعني، إنَّ خامة صوت مطربتين معروفتين (من جيل الستينات) كانت أفضل من خامة صوت أم كلثوم، لكن أم كلثوم كانت لديها قوة الحضور والذكاء الشخصي الذي جعلها الأهم عربيًا بلا منازع (واحدة منهما كانت ناجحة والأخرى لا تذكر إلا بأغنية أو اثنتين)..
هناك بالتأكيد سياقات معينة تُشكل فرصة كبيرة لأصحاب المواهب وقد لا تكون متوفرة لسواها حتى لو امتلكوا عدة الذكاء الاجتماعي (تخيلوا فيروز مثلا بلا الرحابنة، والرحابنة بلا فيروز)..
أُكرر: هذا في كل شيء، الأمثلة الفنية هنا أوضح؛ لأننا ببساطة نعرف هذه الأسماء جيدًا، لكن هناك مجالات أخرى المُهدر فيها يصبح نسيًا منسيًا تمامًا..
ما الذي تحتاجه الموهبة بالإضافة إلى الموهبة نفسها كي تحقق شيئًا ما، عدا الذكاء الاجتماعي والحضور الشخصي الذي يُسهل تعاون موهوبين آخرين لإظهار الموهبة؟
*****
الاختلاف أولاً
يجب أن يكون هناك شيء مميز مختلف، لا أحد يريد أن يسمع نسخة من أجمل صوت. يمكنه أن يسمع الصوت الأصلي بكبسة زر. لا أحد يريد أن يقرأ نسخة من كنفاني أو محفوظ أو الرافعي؛ لأنَّ أعمال هؤلاء موجودة وتحمل روحيتهم ورؤاهم وشخصياتهم. لا أحد يريد نسخة منهم حتى لو كان مهتمًا وسعيدًا بظهورها أول الأمر.
لا بدَّ أن يكون هناك شيء مميز ومختلف في الموهبة حتى يجعلها مختلفة ويمنحها القدرة على ترك تأثير.
الرؤية الخاصة
يجب أن يكون لدى الموهوب رؤيته الخاصة التي قد تختلف عن الرأي المتوقع للجمهور ورأي من حوله، لكنه مؤمن به، ويسخر كل موهبته له، وهو يؤمن أيضًا أنَّ هناك من يحتاج ويبحث عن هذه الرؤية، وعندما يقدمها، عكس كل التوقعات، تنجح مع الجمهور أو على الأقل مع الفئة المستهدفة من الجمهور.
الجَلَد والتحمل
القليل يقال عن هذا، ولكنه في غاية الأهمية. كل مجال من هذه المجالات يضم حروبًا وصراعات خلف كواليسها وأمام كواليسها، ومن لا يحتمل الضرب والطعنات ويطور جلده ليكون كجلد التماسيح قد يترك مبكرًا، الكثير من الموهوبين يكونون مرهفي الحسّ أكثر ممَّا يجب، ولا ينقصهم الذكاء الاجتماعي ولا الرؤية ولا الاختلاف، لكن الأمر يكون أكبر من قدرتهم على التحمل.
في المسلسل القصير (فيلم تلفزيوني من جزئين) عن حياة المغنية أوليفيا نيوتن جون (التي كانت ناجحة جدًا في السبعينات وجزء مهم من الثمانينات) تقول لها أمها بعد حصولها على جائزة الغرامي وهي في بداية الطريق: “لديك الموهبة، هذا نعرفه الآن، لكن عليك أن تملكي القدرة على النجاة survival “
القدرة على النجاة، لأنَّ الأمر شبّه صراعًا من أجل البقاء.
التطور
يجب على الموهوب أن يتطور باستمرار، في أدواته وفي رؤيته، من يبقى ضمن منطقة راحته الأولى التي اعتادها وتأقلم عليها، لا يمكن له أن يستمر، ومن بقي دون تطور وبقي يشبه نفسه تمامًا خلال عشر سنوات مثلاً، لن يستمر بالنجاح خلال هذه المدة. وهذا لا يعني أن يتقلب بين الصرعات أو الموجات الفكرية المتضادة، على العكس، هذا قد يُشير إلى زيفه أصلاً، بل أن يكون تطوره منطقيًا في سياقه.
المزج بين الثقة بالنفس والشك بالنفس..
أغلب المقولات المتداولة تركز على تنمية الثقة بالنفس وyes we can والمارد والعملاق.. وهذا جانب مهم لا يمكن تجاهله لكن يجب أن يكون ممزوجًا أيضًا بجرعة من الشك بالنفس! هذه الجرعة ستكون ضرورية لجودة ما يقدم والوسوسة في تقديم ما هو أفضل، وعدم الرضا بأي شيء حتى لو صفق الجميع..
رأيت الكثير من الأقلام الواعدة التي تصمت بعد فترة، ربما يكون صمتها صمت المنجز الذي يعمل بدأب وسيتحفنا بشيء ما، وربما يكون نقصًا في بعض الأدوات التي ذكرت، وآمل بالـتأكيد أن يكون الأمر من النوع الأول..
رغم أن طبيعة الأشياء، تُحتم أن يكون هناك من يكون صمته من ضمن النوع الثاني…