عبدو عبد الغفور |
كثيرًا ما نشاهد في الأفلام الهوليودية لحظات إلقاء قبض الشرطة على بعض المتهمين وتقييد أياديهم خلف ظهورهم، وهم يرددون عبارة: “يحق لك التزام الصمت وألا تتكلم إلا بحضور محامٍ، وأي كلمة ستقولها قد تُستَخدَم ضدك أثناء المحاكمة.”
فمن أين أتت هذه الجملة القانونية، وكيف يتم تطبيقها فعلياً؟!
يقصد بالصمت بشكل عام، امتناع الشخص عن التعبير والإفصاح عمَّا بداخله، إمّا بشكل صريح أو بشكل ضمني، والتعبير الصريح يكون باللفظ، وهو الوسيلة المعتادة أو بالكتابة أو بالإشارة المتداولة عرفًا، كما يقصد به أن يظل المتهم (صامتًا) لا يتكلم لا بالسلب ولا بالإيجاب.
و يمكن القول: إن (الحق في التزام الصمت)، تلك الحرية التي يمنحها القانون للمشتبه فيه أو المتهم، التي يستطيع بموجبها الامتناع عن إبداء أجوبة أو تصريحات، سواء أمام الشرطة القضائية أو أمام السلطات القضائية؛ وهو حق يتيح للمعني بالأمر (المشتبه به) عند سؤاله أو استجوابه، رفض الإجابة عمَّا يوجَّه إليه من أسئلة إما جزئيًا أو كليًا، دون أن يُفهَم من هذا الامتناع على أنه قرينةً على ثبوت الأفعال المنسوبة إليه ضده.
وحق الصمت أحد أهم الضمانات القانونية لحسن سير محاكمة عادلة بحق المتهم، ومعمولٌ به في غالبية القوانين المحلية للكثير من الدول.
ففي القانون الأميركي مثلاً يطلق على تلك القاعدة أو ذلك الحق {قاعدة ميراندا}، وذلك نسبةً إلى المُدَّعى عليه في الدعوى التي رفعها ضد ولاية أريزونا، التي استندت فيها المحكمة إلى التعديل الدستوري الأميركي الخامس، الذي يتضمن الحماية ضد قيام الشخص بتجريم نفسه أو ذاته.
وقضت المحكمة بأن الشخص المحتجز يجب أن يعلم من قبل جهة الاحتجاز بهذا الامتياز، الذي يتضمن أن له الحق في أن يظل صامتًا لا يتكلم، وأن كل ما يتفوّه به يمكن استخدامه دليلًا ضده.
ويجب علينا هنا أن نذكر في هذا الصدد أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تبنّى ذلك الحق ضمنيًا، كما أن التقرير الصادر عن لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة بتاريخ ٥ كانون الثاني ١٩٦٢ تحدثت أيضًا عن تلك الضمانة، بل أكدت صراحة الآتي: “اعتراف الشخص المقبوض عليه أو المحبوس لا يجوز استخدامه دليلًا ضده إلا إذا كان نتيجة تصرف إرادي، ويكون قد تم في حضور محاميه وأمام قاضٍ أو أي جهة قضائية”.
وذلك يعني بصورة جليّة أن الأصل ألا يعتد بالاعتراف إلا إذا ثبت أنه تصرف إرادي، وكان ذلك الاعتراف بحضور محامي الدفاع إعمالاً لحق المتهم في الصمت.
أما في العالم العربي، فغالبية الدول العربية تحدثت عنه في دساتيرها، و إن كانت مسألة تطبيقه ما زالت محل نظر بالنسبة إلى الكثير منها، فمصر مثلاً أقرت تلك المسألة في المادة ٧١ من دستور ١٩٧١، وفي قانون الإجراءات الجنائية وأحكامها القضائية كالنقض رقم ١٧ أيار ١٩٦٠ مجموعة أحكام النقض.
كما أكد ذلك الحق قانون أصول المحاكمات الجزائية السوري بالمادة ٦٩ منه.
كما أن الفقه الجنائي ربط قاعدة افتراض براءة المتهم بحقه في التزام الصمت، حيث إن المتهم لا يقع عليه عبء إثبات الاتهام، وبالتالي فلن تكون هناك حاجة إلى مطالبته بتقديم دليل براءته، إنما فقط، وحسبما يشاء من تلقاء نفسه، أن يدحض إدانته بكل الطرق التي يراها ملائمة، وقد يكون من بينها ممارسة حقه في الصمت، ولن تكون هناك ثمة ضرورة للتأثير على إرادته لتقديم دليل إدانته.
بقي أن نذكّر بأن الشريعة الإسلامية الغرّاء كفلت جميع حقوق المتهم أثناء إجراءات الاستدلال والتحقيق والمحاكمة، بل والتنفيذ، ومن هذه الحقوق “حق المتهم في السكوت”، وقد جعلت الشريعة الإسلامية هذا الحق ضمانةً للمتهم في الدفاع عن نفسه وعدم تأويل سكوته بأنه إقرار أو اعتراف، ولم يشرّع أحد أو يضمن حق المتهم بالسكوت مثلما ضمنته الشريعة الإسلامية السمحة، حيث جاءت القواعد الشرعية ومنها قاعدة (لا يُنسَب لساكتٍ قول) حتى لا يُفهَم من هذا السكوت أنه دليلٌ ضد قد يُستَخدَم ضده.