لا يكاد الثوار يلتقطون انفاسهم لساعاتٍ بعيداً عن القصف والموت والدمار، حتى يعودوا لما عاهدوا عليه دماء الشهداء كما يقولون، فثورتهم دونها ما تبقى من الدماء والأرواح، والأمانة تكبر يوماً بعد يوم .
الكثير ممن نزل إلى الشوارع لا تعنيهم الهدنة كثيراً، لا تعنيهم السياسة ولا هرطقات السياسيين، المبادئ وحدها هي ما تعنيهم، وهي كفيلةٌ بإسقاط كلِّ من يتجاوزها.
الهدنة والحرب، سيان عندهم، كما الحياة والموت، لم يعد هناك ما يستحق الوقوف عنده سوى تلك الأحلام البعيدة ببلدٍ تسوده الحرية والكرامة، إن كانت الهدنة ستحقق ذلك فأهلاً بها، أمّا إن كانت ستنال من حلم أي طفلٍ أو شهيدٍ أو معتقلٍ خلف قضبان العذاب، فهم على استعدادٍ أن يحرقوا الهدنة وأصحابها، ولسان حالهم يردد نشيد الشهداء .. فإمّا حياةٌ تسرّ الصديق، وإمّا مماتٌ يغيظ العدا .
هي قضيتهم .. ، كلُّ ما آمنوا به في هذه الحياة القصيرة، وصيةُ من رحلوا، حلمُ من تفتحت أعينُهم على الدنيا، أزهارُ الربيع القادم مع كلِّ آذار، عبقُ الهالِ من فنجان قهوةٍ قد مزقته الشظايا، وأغنياتٌ ترتَّل مع كل صبحٍ يعانق فيروزه التي اثخنتها الجراح .
مع أني لا أحبُّ الهال في قهوتي، ولكني استطيع تحسّس رائحته التي تنطلق من على بعد وطنٍ مدمنٍ مثلي، مازال يرفض تغيير عاداته السيئة في احتضان من يحبهم على الرغم من قسوة العناق .
في سوريا، لازالت هناك قضيةٌ تستحق أن نحيا لأجلها، ولن تستطيع ميادين السياسة أن تسلب ألقها من عيون ملايين من آمنوا بها، مهما احترفت ترويض القضايا، وسيستيقظ كل أولئك الذين خدعتهم مغريات الحياة، أو قست عليهم ظروفها، لا لشيء .. بل لأنهم سوريون .. ولأنّهم أبناءُ هذه البلاد التي لن تملَّ من انتظارهم …
المدير العام / أحمد وديع العبسي