د. جلال النجار
من الملاحظ في فقه الإمام ابن تيمية أنَّه لم يورد فقه الخلافة في كتبه، وإنَّما كان يتحدث دومًا عن فقه الشريعة! علما أنَّ الخلافة في عصره كانت أكثر ما تكون بحاجة إلى الإصلاح والترميم والعودة إلى الفقه النبوي الأصيل، بعد تحولها إلى وراثة، وحكم شكلي أوصل المغول والتتار إلى عواصمها؛ بسبب اقتتال أمرائها واختراق الباطنية لنظام حكمها.
فلماذا لم ينكب شيخ الإسلام على إصلاح أهم ركيزة في نظام الحكم الإسلامي، كما يسميها البعض «تاج الفروض» مضخمًا لدورها، ومبرزًا لأهميتها، وجاعلًا من إخراج الخليفة إصلاحًا للهرم الإسلامي من رأسه بدلًا من بناء الأمة من قاعدتها الطبيعية، مع اشتهار نشاط ابن تيمية المميز في إصلاح أدق الثغرات في الفقه الإسلامي، وشنه الحروب على أصغر الانحرافات الشرعية.
لا شكَّ أنَّ نظام الخلافة الإسلامي يعتبر الشكل الأمثل لنظام الحكم، ولكنَّه ليس النظام الوحيد للحكم الإسلامي نظريًا وعمليًا عبر التاريخ.
ولقد اعتمد شيخ الإسلام في كتبه ومؤلفاته على مصطلح الأمة، والحاكم المسلم، وحكم الشريعة، وليس الخليفة، وحكم الخلافة، فهو يخاطب الأمة الإسلامية باعتبارها مسئولة النهضة والإصلاح، ولا يخاطب الخليفة العاجز عن ذلك، فسمى مثلًا كتابه «السياسة الشرعية بين الراعي والرعية»، وكذلك في باقي كتبه وموسوعاته، أكثر الحديث عن إقامة أحكام الشريعة، ولم يتعرض لمصطلح الخلافة.
فدولة الشريعة تقوم على فقه الممكن، أي إقامة الممكن من الدين، والسعي نحو استكمال ما تعجز عنه، ولذلك كان الحكم الشرعي يتماشى مع مقدرة الأمة، حسب تمكينها واختلاف عصورها، ولا ينظر شيخ الإسلام إلى من يحكم بجزء من الشريعة، ويعجز عن إقامة الباقي مع إقراره بأولوية الشريعة عن غيرها في الحكم على أنَّها أنظمة غير إسلامية أو أنظمة جاهلية كما ينظر البعض اليوم.
ولذلك كان النجاشي ملكًا مسلمًا سعيدًا في الجنة، كما يصرح ابن تيمية، مع عجزه عن إقامة الأحكام الشرعية في نظامه، مع إقراره بأولويتها وسعيه لتطبيقها.
وكذلك المسلمون اليوم بحاجة إلى فهم دولة الشريعة وإقامتها، فليس من الممكن شرعًا أو عقلًا أن ينتقل المسلمون من عصر الاستضعاف والسجون إلى كرسي الحكم لإقامة خلافة واحدة مركزية يخضع لها جميع مسلمي العالم، فهذا كدفع المسلمين إلى سراب ما هم ببالغيه، و لن ينتقل الإسلاميون إلى الحكم، ما لم يمروا بمرحلة حرية الدعوة، خلوا بيننا وبين الناس التي مرَّت بها السيرة النبوية الشريفة، فلم يكن الحكم الإسلامي في المدينة انقلابًا عسكريًا على أهل القوة والحكم، بل كان تربية وتهيئة بهذه الدعوة الجديدة، ولذلك تبقى مرحلة: «خلوا بين الإسلام وبين الناس» هي الجسر الوحيد الواصل إلى دولة الإسلام القائمة على الشورى، أي على منهاج النبوة، وأمَّا محاولات القفز الفاشلة إلى سدة السلطة عبر الانقلاب، بدون الولوج عبر باب الأمة، فهي حكم التغلب والقهر، وليس على منهاج النبوة، ولم يكن يوما راشدًا بإقصائه للشورى، التي هي ركن من أركان النظام السياسي في الإسلام.
وهذه المرحلة تكفلها دولة الشريعة التي تدور مع مقدرة المسلمين وإمكاناتهم، كما هي سائر التكاليف الشرعية،
وعلينا أن نسعى إلى إقامة دولة الشريعة، التي تحكم بما تستطيع من العدل، وتقيم ما تستطيع من الشرع، فهذا في حقنا هو التكليف الآني الرباني، وليس من الحكمة، ولا من الوعي السياسي، السعي إلى خلافة إعجازية تحرق مراحل بناء الأمة وتتجاوز تربية الأمة، وحرية الدعوة فيها، فهذا سيكون أشبه بالحلم البعيد عن الواقع، وبتكليف الأمة أكثر من طاقتها، فلا نتفاجأ من نكوص الأمة عن مثل هذه المهمة الجسيمة وسط محاولتها النهوض والانعتاق من قيودها.
إنَّ السعي نحو دولة الشريعة عبر إقامة الممكن من الدين، والعدل، والسعي نحو استكمال النظام الأمثل هو المسئولية التي تواجهنا، بدلًا من السعي وراء سراب بعيد عن مقدرات الأمة وشوكتها، ولا أعتقد أنَّ من يسوق لشعارات براقة بين شباب المسلمين، في ظلِّ تلمس الأمة لطريقها، يوجهها نحو الرشد والخير، طالما أنَّه يكلفها ما لا تطيق، ويطالبها بما أسقطته عنها الشريعة ريثما تمتلك زمام الشوكة، وتبني أمتها على منهاج النبوة، نحو حكم إسلامي راشد يفهم الواقع ليغيره، لا مع شعارات برَّاقة بعيدة عن الواقع والتمكين