جاد الغيث |
في قصة جميلة للأطفال تحمل عنوان (أمي شنطة سفر) يقصُّ علينا الكاتب حوارًا ممتعًا بين الأم التي تسافر كثيرًا بسبب طبيعة عملها، وبين طفلها الذي يراقبها وهي ترتب حقيبة سفرها.
الطفل يرى أمه تضع مستلزمات بسيطة تحتاجها وهي تردد في كل مرة: “نستطيع أن نعيش بسعادة مع القليل من لوازمنا؛ لأن الباقي نأخذه معنا في قلبنا وعقلنا.”
ويتساءل الطفل عن معنى العبارة الغامضة بالنسبة إليه، ويكتشف بعد عدد من الأسئلة الموجهة للأم أن الذكريات والمشاعر والعلم والحب لا يمكن حملها في حقيبة سفر!! وأن هذه المعاني العميقة مرتبة في داخلنا حسب أهميتها ومنسقة بشكل مدهش في أدمغتنا، وتنتهي القصة بعبارة قد تبدو أكبر من مستوى الطفولة “رتب جيدًا حقيبة سفرك الداخلية، فهي وطنك إن غاب عنك الوطن، وهي قَصرك إن احتجت إلى مكان آمن يومًا ما”.
القصة مبهرة برسومها وألوانها، وهي عميقة بمعناها، وقد ذكرتني بملايين السوريين الذين حملوا حقائب سفرهم بظهور محنية وهاجروا بعيدًا عن سورية.
لو فتحت حقائب سفر معظم السوريين ستجد فيها أشياء بسيطة ترمز إلى الوطن.
أحدهم حمل مفتاح بيت جده القديم، وثانٍ ملأ حفنة تراب من بستانهم المليء بأشجار الزيتون في قلب زجاجة صغيرة، وثالث أخذ معه الصور الفوتوغرافية لعائلته والمطبوعة باللونين الأبيض والأسود فقط، ورابع لف أوراقه المهمة بعلم الثورة السورية الذي رفعه في أول مظاهرة سلمية شارك بها.
أشياء رمزية تحث على استثارة المشاعر التي ربما تخبو في الغربة، لكن ما حمله السوريون في حقائبهم الداخلية كان أكبر آلاف المرات من حجم حقائب سفرهم الحقيقية.
فماذا حملوا، ولماذا؟! معظم من سألتهم أجابوا أجوبة متشابهة، لكن ما قاله لي رجل مسن كان غريبًا، وقد بكى بحرقة وهو يقول: “يلي حملتوا معي لا يُكتب ولا يُحكى..”
أحد الأصدقاء الذين مازال متشبثًا بالمناطق المحررة قال لي: “حملت معي فقط إرادتي على النجاح” وصديقنا الشامي حمل معه عبوة بلاستكية فيها (ماء الفيجة)
لكنها ضاعت منه وهو ينزح من مكان لآخر!
ولدينا صديق مرهف الإحساس كان له جواب شفاف: “أنا بحن حتى لألم إصابتي بحلب الشرقية، بحن لريحة الياسمين اللي كنت شمها الصبح من عرايش البيوت، بحن لبياع السحلب، وصوت البراميل المتفجرة..!”
كل سوري حمل معه شيئًا ماديًّا بسيطًا له قيمة كبيرة لديه، ومن هاجر عبر البحر، أو قفز عبر الحدود الشائكة بين الدول، لم يحمل معه سوى نفسه، ترك كل الأشياء المادية خلفه، لم يبقَ له سوى ذاكرة محشوة بأحداث مؤلمة لا تُنسى، وحنينًا وشوقًا يزرع الصحارى المقفرة أشجارًا مثمرة، وأخلاقًا كريمة ونشاطًا وهِمة!
نعم، هذا هو أبرز ما حمله السوريون معهم (أخلاقهم)، وهي التي دفعت الناس للتعاطف معهم في دول المهجر، وكان الانسجام السريع إلى حد ما مع بيئات غربية غريبة عنا في ثقافتها ولغتها وعاداتها.
كم سمعنا عن متفوقين سوريين من الشباب الذين كرموا في الدول المستضيفة لهم، بعد أن تركوا بصمة في تفوقهم الدراسي! وكم رويت قصص كثيرة عن الانسجام مع المجتمع وتصدرت صور السوريين الصفحات الأولى للجرائد الوطنية! كان آخر ما قرأته قصة الأمانة في جريدة سويدية: “شاب سوري في يُعيد مبلغًا ماليًّا ضخمًا بعد أن عثر عليه في قطعة إثاث مستعملة.”
وآخر ما شاهدته لقاء تلفزيونيًّا لجارنا المهاجر إلى هولندا مع التلفزيون الرسمي الهولندي، وهو شاب موهوب في الرسم تم تكريمه بمناسبة يوم اللاجئين العالمي.
وقبل أيام كُرِّم شاب سوري من بلدة (موحسن) بدير الزور لنيله المرتبة الأولى في الثانوية العامة في ألمانية.
لا شك لديكم قصص تُروى عنكم وعن أقاربكم ومعارفكم كلها تُثبت أن ما نحمله في داخلنا من قيم وحب وأخلاق أفضل آلاف المرات مما حملته حقائب سفرنا.