عائشة الكرمو
أكثر ما يعاني منه الإنسان في ظلِّ الحروب هو التهجير القسري، بعد أن يُفرضَ عليه الحصار الذي يضعه أمام أحد خيارين لا ثالث لهما ( الموت أو التهجير).
فهذه المعاناة تجلّت أمامنا حين تبع النظام سياسة التهجير في حلب، فقام بتهجير أهلها قسراً بعد الحرب القذرة عالمياً على حلب بموجب الهدنة، إلا أن النظام لم ييأس من حربه الدعائية التي ينتهجها إلى جانب عهره السياسي والعسكري، فعرض على المهجرين عرضاً علّه يعيد فيه سيطرته على الشعب الحلبي ألا وهو ” مَنْ يرغب بالعودة إلى منزله الذي أصبح خاضعاً لسيطرته فليعد تحت رايته”.
ولعلّ الجواب قد بدا واضحاً على وجوه المهجّرين من مسقط رأسهم حين التقت بهم صحيفة حبر، حيث أجرت استطلاعاً عاماً مع ما يقارب 150 شخصاً حول إمكانية عودتهم إلى منازلهم بعد تهجيرهم قسراً من حلب التي أصبحت خاضعة لسيطرة النظام وحلفائه، هل ستعود إليه أو لا؟ وما رأيك بمن عادوا؟
فكانت نسبة الإجابات بالرفض التام والمحسوم ( لا ) 120 شخصاً، أي ما يقارب 80%، بينما كانت نسبة الإجابة بالموافقة ( نعم) 30 شخصاً، أي بما يقارب 20%
ومن بعض الآراء والإجابات التي حصلنا عليها رأي (أبو محمود) وهو في الخمسين من عمره يقول: ” طبعا لا، إلى أين سأعود؟ هل سأعود إلى منزلي الذي قصف بصاروخ مظلي؟ في الحقيقة لم يعد هناك شيء لنعود إليه سوى الذل والإهانة من قبل النظام، وأقول لهؤلاء الذين عادوا إلى أقفاصهم ( بيوتهم ) انتظروا الذل الذي سيمنحه النظام لكم هدية عودتكم لأقفاصكم”.
أما (أبو علي) الذي بلغ من العمر ثلاثين عاماً أوضح قائلاً: ” لن أعود، فأنا لا أستطيع العيش في ظل سيطرة نظام سلب مني حريتي وباع أرضه وشعبه للمستعمر الروسي والإيراني، فهي حياة واحدة وأريد أن أحياها بكرامة، والذين عادوا لسيطرة النّظام فهذا من شأنهم ولكل منهم رأيه”.
ولقد عبّرت (شذا حداد) التي بلغت إحدى وعشرين سنة، والآه تأكل لبّ قلبها:
” آه، ليتني أستطيع العودة، ولكن ذلك من المستحيل، فزوجي مطلوب للتجنيد الاحتياطي، وغير هذا كله أفضّل أن أحيا بخيمة صغيرة تمنحني السّلام وحرية الكلام وتحفظ لي ديني وعرضي على أن أحيا بمنزل ألصقت على جدرانه آلاف الآذان، وبابه ليس له مفتاح، يدهمه النّظام متى شاء وكيفما شاء، وكأنّنا وبيتنا ملكٌ له، وأقول للذين عادوا لسيطرة النظام هنيئا لكم استئصال كراماتكم”.
وبيّنت (أمّ أحمد) البالغة من العمر ستًّا وأربعين رأيها، فقالت: ” نعم، بل أكيد، فالكثير من الناس يعيشون في سيطرة النظام ولا يعترضهم أحد بشيء، وأنا في الحقيقة أريد لأولادي أن يعيشوا حياتهم، فعلى الأقل لا يوجد قصف في مناطق سيطرته، والذين عادوا هذا من حقهم بغض النظر لمن كانت السلطة”.
وممّا أثار اهتمامي إجابة الطفلة (رنيم) التي ما زالت في الثانية عشرة من العمر حين قالت: ” بابا اعتقله النّظام منذ بداية الثورة، ولم ينته جشعهم بأخذ والدي حتى أخذوا منزلنا، فتركت ثيابي وألعابي، خسرنا كل شيء، فإجابتي لا تحتاج لتفكير: لن نعود إلا في ظل تحرير البلاد من الظالمين، والذين عادوا هم في الأصل شبيحة للنظام “.
ربما يقول أحد من الناس بأن حلب قد نسيت وطواها الزمن، ما الفائدة من طرح هذا الموضوع بعد مرور أيام كثر على فقدانها وسقوطها؟
الحقيقة المرة هي أن مسألة العودة إلى موطن الولادة والمنشأ لا يزال يُؤرّق جمهرة لا بأس بها من الناس، ولذلك كان لا بد من تبيان التوجه العام لآراء عامة الناس تجاه هذه القضية وخاصة بأن مثل هذا التوجه سيؤثر سلباً أو إيجاباً على طبيعة المرحلة القادمة من الثورة، ولا سيما أنَّ الناس يشكلون روح القضية وجوهرها في مدّها وجذرها.
ولذلك فإن النّسب التي حصلنا عليها في هذا الاستطلاع تؤكد بأن ثورتنا لن تنتهي، وأن سقوط حلب لن يجعل الشعب الأعزل الذي آثر الكرامة والدين على المال والمنازل يخضع لسيطرة النظام أو المستعمر، فصور تهجير النبي وصحبه ليلاً من مكة شبيهة بتهجير المسلمين السنة من حلب اليوم، ولكن الرسول وصحبه لم يستكينوا، وإنَما أعدوا عدّتهم وعتادهم التي أساسها الوحدة والدين وعادوا إلى بلادهم فاتحين، وما علينا اليوم هو الاقتداء بالرسول وصحبه من وحدة القلوب والعمل، لنعود كما عادوا فاتحين.