جاد الغيث |
الأربعاء (12 شباط 2020) بدأت رحلة النزوح الثانية لعائلة (أبو محمد) من الأبزمو في ريف حلب الغربي والوجهة إلى عفرين. سبق (لأبو محمد) وعائلته أن هُجروا من حلب الشرقية في كانون الأول 2016 وتركوا خلفهم كل ما يملكون، وخرجوا يومها بحقيبة ملابس كبيرة لا غير.
واليوم تتكرر مأساة التهجير للمجهول، ولأنهم لا يملكون الكثير من الأغراض استطاعت سيارة (الفان) أن تحمل كل متاعهم، أما أبو محمد وزوجته وأولاده الأربعة فقد حشروا أنفسهم بين الأمتعة المؤلفة من (غسالة بحوضين، جرة غاز مع موقد برأس واحد، أدوات منزلية بلاستيكية، فرش ومخدات وأغطية، وأكياس بيضاء وسوداء كبيرة محشوة بالألبسة..).
بدأت مسيرة الشقاء إلى غصن الزيتون في العاشرة صباحًا، ساعة كاملة تقريبًا حتى انتهى حشر الأغراض في الفان، لم يجادل أبو محمد السائق على أجرة الطريق، همه كان يشغله، حتى أنه لم يلوح بيده لجيرانه الذين وقفوا حائرين تائهين، بينما تنهال قذائف مدفعية النظام على الأبزمو، والطيران الحربي الروسي يحلق في سمائها، وحين أغلق باب سيارة (الفان) استعدًا للمسير بكى أبو محمد بصوت مخنوق، وعلى مدار تسع ساعات، وهي مدة رحلة العبور، لم نسمع له صوتًا، أولاده كانوا يبكون بصمت بين حين وآخر نسمع تنهداتهم، كنت بجوار صديقي السائق وقد حشرت حقائبي بجانبي وتحت قدمي، وكنت شاهدًا على عذاب البشر في رحلة تستغرق ساعتين لو كان الطريق سالكًا، لكننا أمضينا تسع ساعات متواصلة للوصول إلى عفرين.
السيارات من كافة الأنواع محملة بالأثاث والأكياس المربوطة وغالبية الأطفال فوق الأغراض ينظرون حولهم بعيون تائهة ووجوه متعبة، إحدى السيارات كانت تحمل على ظهرها حمارين جلسا القرفصاء وفوقهم تكدست أكياس الملابس، حتى الحمير تعاني في هذا الشقاء الذي يبدو بلا نهاية.
وجوه النازحين مغموسة بالألم والحيرة، فهم يعلمون قبل أن يصلوا إلى أماكن غصن الزيتون ودرع الفرات أن هذه المناطق مكتظة بالنازحين ولا يوجد حتى غرفة واحدة للإيجار، والمخيمات أيضًا لم تعد تستطع إيواء المزيد، هناك أراضٍ متطرفة يمكن للنازحين شراء خيمة بخمسين دولار والعيش فيها مؤقتًا، نسبة كبيرة جدًا من النازحين يقيمون الآن في بيوت أصدقائهم أو أقاربهم، ولكن ماذا يفعل أبو محمد وعائلته الذين لا أقارب ولا أصدقاء لهم في عفرين؟!
قبل أن نصل بنصف ساعة تقريبًا سألني أبو محمد إذا كنت أعرف مكانًا أو صديقًا يمكن أن يستضيفه هذه الليلة، أجبته بسؤال: “ليش أنت ما عندك حدا تروح لعنده ؟!”
فأجابني بصوت مخنوق: “مالي غير الله”.
ونعم بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله، بعدها ساد صمت ثقيل حتى أشار أبو محمد للسائق بالوقوف أمام مبنى على (العظم) في مدخل عفرين، صعد الدرج مسرعًا وراح يتفحص المكان على ضوء القداحة، نزل وقال لنا: “نمضي الليلة هون لحتى الله يفرجها” وبدأ بإفراغ محتوياته من (الفان) وأولاده الثلاثة يساعدونه في حمل الأمتعة، بينما كانت زوجته تقف جانبًا وهي تهدئ من بكاء ابنتها الرضيعة.
كانت الساعة قد تجاوزت السابعة بقليل، واشتد المطر والبرد أكثر وأكثر وخيم ليل ثقيل موجع، كيف ستمضي هذه العائلة ليلتها؟ وما هو حالهم في بيت بلا جدران، وأرض وسقف فقط؟!
الأغراض على ظهر (الفان) بعضها تسرب إليه ماء المطر الذي اشتد فجأة، حتى الأغطية لم تسلم من البلل، أي ليلة قاسية تلك التي تنتظر هذه العائلة الموجوعة؟!
تنازل صديقي عن جزء من أجره ولمعت عيناه بدمعة كأنه يقول في سره: “أخشى على أولادي من المصير نفسه”
وصلت بيت صديقي متعبًا محطمًا وذاكرتي تغص بصور موجعة يحفظها التاريخ ليدون سيرة المجرم الظالم.