رفاه العياش
أيحقّ لي أن أنثر كلماتي على تراب حلب، وأسكب حبري على أدراجها التي عليها العزّ انسكب، والتي سُطّر اسمها بماء الذهب دون أن أستأذن طهرها ومجدها؟
فحمص القلب، وحلبُ ندبةٌ فيه، لكني أثق أنَّها ستعذرني إن علمت أنَّي عن شقيقتها أتحدث، عن أم الحجارة السوداء والقلوب البيضاء وأرض الشهداء، عن مدينةٍ هزتها رياح الحرب إلى أن مالت وأوشكت على السقوط ثم استقامت… كيف تسقط وابن الوليد يحرسها وأحفاده يذودون عنها.
مدينتي التي ضبطتُ نبضي على دقات عقارب ساعتها…
مدينتي التي عشت فيها أجمل سنواتي، واشتقتها في أقسى سنواتي…
نثرت ضحكاتي في شوارعها ا التي أحفظها عن ظهر حب، أدمت قلبي صورها وهي تتوسد الركام وتحتضن الخراب، شوهوا كلَّ جميل فيها، واشتراها الموت، وباعتها الحياة.
فهل أعود أم لا أعود …؟!
كيف لا وأنا التي أزهقتُ روحي من فرط اشتياقي، كيف لا وأنا التي أمضيت ست سنوات في غربتي أمارس الحنين بكامل الاحتراق، وأعتب على كل مدينة تحاول أخذ مكانها في قلبي، وإن أحببت أخرى فلأنَّ فيها شيء منها.
عدت وأنا أعتصر قلبي بيدي، لكن لابدّ أن أتفقّد إرثي العاطفي هناك، وأن أُزيح الركام عن كل طريق مشيته ذات فرح، وأنتشل ضحكة استودعتها تحت أغصان ورودها ذات سمر، وأحتضن ذكريات دفنتها في حديقة بيتنا ونسيت أن أودعها ذات سفر.
حان يوم لقيانا… في السيارة التي أقلتني إليها شعرت وكأنَّ قلبي يقفز مني ليحتضن العجلات الأربع، وروحي الموهنة تفرُّ منِّي لتجرها علّها تستعجل بوصولنا،
وعلى الطريق المؤدي إليها رأيتُ لوحةً كانت يوماً تحمل اسمها قد انحنت على الطريق، فهي كالبشر قسمت ظهرها الحرب … فهي تخجل أن تقف وتقول لزوّارها: حمص ترحب بكم، والموت يخيّم عليها.
لا أمان يتمشّى في حاراتها، ولا حب يغازل أبنيتها،
كلُّ من بقي فيها يسعى إلى الحياة ما استطاع إليها سبيلاً، منتعلاً جراحه وأحياناً كرامته، فيها رأيت الجوري كيف بكى إلى أن غفا على كتف الياسمين الذي اختنق من رائحة الموت.
الشمس إذ طلعت تزاور عن جرحهم ذات اليمين وذات الشمال، وقاتلهم باسط ذراعيه بالوصيد، ولو اطلعت عليهم لولّيت منهم فراراً لتحيك لهم من خيوط الشمس أملاً لوجوههم الحزينة، ولمُلئتَ منهم إصراراً، والشمسُ إذا غربت تُقرضهم قمراً يطلع خجلاً، مختبئاً خلف غيمة، يسامر أرواحاً أضناها ألم الفقد، فيها رأيت العاصي كيف تلوّن بالأحمر… فيها افتقدتُ العيد، وعتبتُ لمَ لم يعد لزيارة أهلها اللهم إلا في مجيء الكهرباء صيفاً وفي الظفر بالوقود شتاءً…
ها أنا قد رجعتُ إلى حيّنا يا فيروزتي، لكني لم أغرق في دافئات المنى، بل غرقت في موجعات الصدى، فوضعت رحال قلبي النازف على عتبة بيت أبي المتصدّع من قذائف لا ترحم، قبّلت ورودي التي يبست شوقاً لي كما يبست الدماء في عروقي لفراقها، تعكزتُ روحي، وانتعلتُ قلبي، وسرت إليه …
آهٍ … كيف أُحيي جداراً استُشهد فيه الصدى، ونافذةً انتحر منها الفرح، وباباً طال انتظاره لأصحابه فشنق نفسه بيد غريبٍ طرقته، ماذا سأجيب ياسمينتي حين تسائلني: لمَ لم يعودوا معكِ؟
أأكذب وأخبرها أنَّهم خانوها وعشقوا ورود المنفى التي لا عطر لها؟
أم أقول: إنَّهم أحبوا بلاد الغرباء، وتابوا عن الشوق؟
شُرفتي الحلوة بمَ سأجيبها إن سألتني عن أولئك الذين ملؤني قناديل فرح، وأغرقوني زواراً وضحكاً صباح مساء .. أأدعي أنَّهم تورّطوا بعشق البيوت الصغيرة الباردة التي لا شُرفات لها؟
كيف سأواجه كلَّ هذا وحدي، وأنا أضعف من أن أرد على عتاب الزوايا… قررت الهرب إلى بيت جيراننا، فوجدت الأطفال الصغار قد كبروا وعلقوا على الحائط صورة والدهم وتقاسموا البكاء…
استدرت وذهبت إلى بيت جارتنا التي كانت زيارتها طقساً يومياً لنا، وقبل بضع خطوات وجدت كل ما في بيتها يشي بموتها، النوافذ الباكية والباب المنتحب .. يااااه ما أقساها على الروح من لحظة!!
سارعت إلى الشرفة الأحب إلى قلبي، التي قضيت عليها نصف طفولتي أنا وابنة جيراننا، فوجدت أمها تخاطب صور أبنائها المغتربين وتنتظر غيث اللقاء،
وقبالتها جارتنا الثالثة تستند على بابها المفقود، وتحتضن ثياب ابنها، وتحيا على عبقهم… فقد أخبروها منذ زمن أنَّه استشهد فقالت: كذب المبلّغون ولو صدقوا، وراحت تنتظر.
تعثرت بدمعي، وانتفض قلبي حين رأيت أناساً غرباء لا أعرفهم في بيت جارة أخرى، سألتهم عن أهل البيت، فأخبروني أنَّهم تركوا المكان وهاجروا،
ذهبتُ إلى دكان الحي، فوجدته بلا بائع ولا باب.
كتائهةٍ في صحراء الشوق كنتُ أبحث عمّا يسد رمق حنيني… عن كأس لقاء يبلّ عروقاً جفّت انتظاراً، مشيت ومشيت لم أرَ سوى مدينةً خاوية على عروشها وكأنَّها ما شهدت يوماً حياة…
رفقاً بما تبقى مني يا حمص، ذهبت لألملم روحي فيك، فوجدتك تبعثرين ما تبقى منها.
لم أخبركم بموعد رحلتي، أقلعت من مطار الشوق في الساعة السابعة إلا دمعة على متن الخطوط الفوتوغرافية، لكن بعد تلك الرحلة الشاقة على الروح، لا أتمنى سوى أن تبقى رحلةً گهذه على الورق وأعود، لكن في رحلة أخف وطأة على القلب فأراها كما عهدتها جميلة قوية والأعياد فيها تعبق، وأشرب على شُرفة بيت أبي فنجان قهوتي المحلى بسكر اللقاء أغازل الشفق، وأذكر رحلةً مؤلمةً ما كانت إلا حبراً على ورق…