جاد الغيث |
تمام الثامنة صباحًا من قلب أجمل وأخطر مدينة في العالم، تحية صباحية لكل من يسمعنا عبر موجة الـ (إف أم) من داخل حلب الشرقية، ولكل مستمعينا السوريين في تركيا الذين يتابعون البرنامج اليومي (صباح الخير يا حلب) ويسعد صباحكم.
على مدى عاميين متتاليين كررت العبارة السابقة آلاف المرات، وفي كل مرة يُردد لساني الكلمات بصوت إذاعي دافئ يوحي بالأمان والتفاؤل، بينما كان ذهني يمضي بعيدًا في مقارنة سريعة بين قاطني حلب الشرقية وبين أهل حلب في تركيا.
إنها صورة ذهنية مرعبة ومليئة بالتناقض، هنا قد يسقط برميل متفجر في أي لحظة وأنت تستمع إلى برنامج الصباح وتنقلب فجأة من مستمع إلى شهيد، وربما وأنت تحصي عدد الجرحى في نشرة الأخبار تتحول فجأة إلى جريح.
لا يسلم من ذلك حتى مُقدِّم نشرة الأخبار ومهندس الصوت وفريق العمل،
فالحياة في حلب الشرقية قطعة من الجحيم تمرُّ أيام بدون ماء وبدون كهرباء والطائرات الحربية في السماء، وعلى الأرض الجرحى والأشلاء، ولولا فضل الله علينا لما صبرنا.
كان لسان حال الجميع يبتهل إلى الله في كل لحظة قائلًا: “ربنا أفرغ علينا صبرًا”
كنت في برنامج الصباح أعزّي نفسي باليقين بما وعده الله للصابرين، وأنقل يقيني بكلمات تامات مليئات بالرجاء والأمل إلى المستمعين الذين كنت أتخيل دموعهم وألمهم وابتساماتهم وأحلامهم، وكنت كثيرًا ما ألغي بعض الفقرات لشعوري بأنها لا تناسب واقع الحال، لذلك كان من باب أولى ألَّا أتكلم في فقرة التنمية البشرية عن الشخصية القيادية مثلاً، وقد وصل إليَّ قبل قليل من محرر الأخبار أن حصيلة مجزرة مدرسة (عين جالوت) في حي الأنصاري قد تجاوزت مئة طفل بين شهيد وجريح.
لم تكن أبدًا مهمة سهلة أن تقدم برنامجًا صباحيًا يمنح الأمل وأنت تكاد تموت حزنًا وقهرًا على دمار بلدك واستشهاد أصحابك، لكنني كنت أزرع الأمل في كلماتي وأحمل الكلمات إلى صوتي، وكان الميكرفون الأسود الصامت دائمًا يشعر بكل ذرة من تقلباتي، وكنت أظنه يبكي معي حينًا، وكان ينقل بصدق صوت زفراتي وابتهالاتي، فهو الناطق الصامت، ومعه أمضيت أرقى وأجمل ساعاتي.
اليوم لسنا في حلب التي عشنا فيها كل تلك الأحداث التي سردت بعضًا منها في مقالين سابقين ضمن سلسلة ذكرياتي التي سأختم جزءها الأول بهذه المقال، لكننا على يقين أننا عائدون إليهم بفضل من أخرجنا من جحيمها، عائدون بعون الله ما بقي الغار رمز حلب ورمز النصر الذي سنطوق به قلعتها.