جاد الغيث |
المكان: المدينة الجامعية لجامعة حلب، الزمان: 15 / كانون الثاني / 2013.
استيقظت في العاشرة والنصف صباحًا، وما أذكره أنني كنت أجهز نفسي للذهاب إلى الكلية، أبحث عن كتاب (الرقابة القضائية) وعن بعض المحاضرات المبعثرة على طاولتي الصغيرة، كان الجو باردًا، حضَّرت كأسًا كبيرًا من القهوة ورحت أرتشفها ببطء، فمازال لدي أكثر من ساعة على موعد المحاضرة، وهذه فرصة نادرة للتمتع بشيء من الخصوصية، شركائي الثلاثة في الغرفة غادروا في الثامنة صباحًا، وحيدًا من نافذة غرفتي في الطابق الأخير من الوحدة (16) كنت أتابع مشهد الحياة اليومية والذي بدا لي كأنه مزيج من الأمل والبؤس والخوف، حركة النازحين لا تهدأ فكثير منهم لجأ إلى السكن الجامعي هربًا من القصف الوحشي لقوات الأسد في المناطق الشرقية لحلب.
الوحدات السكنية تغص بالعائلات الفقيرة، كل عائلة تعيش في غرفة صغيرة تتسع لشخصين فقط، وفي الغرفة أربع أسرة عسكرية وخزانة ملابس صغيرة، وطاولة خشبية ومرآة ملصقة على الجدار.
عبر نافذتي رأيت دخانًا كثيفًا في السماء مع صوت بعيد لطائرة حربية ترمي حممها، تهدم البيوت فوق رؤوس أصحابها في الجزء الشرقي لحلب، بينما على أرصفة الجزء الغربي للمدينة بسطات الخضار والألبسة المستعملة والمنظفات وحاجيات أخرى للبيع يحتاجها النازحون. من نافذتي كنت أدرك حجم المعاناة والكارثة التي تحيط بالناس الذين يسعون لتأمين لقمة عيشهم، كثير من أصحاب البسطات كانوا يملكون محلات، ولو كانت بسيطة، لكنهم اليوم يجدون أنفسهم على الرصيف.
قطعت أفكاري ومضيت أمشي متمهلًا إلى مبنى (كلية الحقوق)، وصلت قبل الحادية عشرة والنصف، وفجأة شعرت بأن صوت الطائرة الحربية صار قويًا وقريبًا لدرجة مرعبة، لحظات وكانت الضربة الأولى.
اهتزَّ مبنى الكلية وتحطم زجاج بعض النوافذ، إحدى الطالبات سقطت أرضًا والباقيات رحنَ يصرخنَ، هرع الطلاب إلى الخارج يستطلعون الأمر، ركضت بكل ما أوتيت قدماي من عزم، توقعت أن أحدًا ما قد أصيب بأذى، ربما زملائي في الغرفة، وقبل أن أصل مكان الضربة الأولى كانت الضربة الثانية، خارت قواي، فجثوت على ركبتي ورحت أنظر إلى دخان كثيف ينبعث من ناحية الوحدات السكنية للمدينة الجامعية، سمعت أحدهم يصرخ (فزعة يا شباب.. الضربة عند دوار كلية العمارة)
تمالكت نفسي ونهضت مسرعاً، ضربات قلبي كالطبل، كثير من الطلاب راحوا يركضون باتجاه الضربة، وأما الطالبات فقد تسمرنَ في مكانهنَّ والفزع يأكل قلوبهنَّ الضعيفة.
وصلت الوحدة (16) كانت واجهة المبنى تشتعل والناس يركضون بذعر في كل اتجاه، بعض الجرحى على الأرض ينزفون بانتظار سيارات الإسعاف، الناس في الطوابق العليا تجمعوا في المدخل العريض للوحدات السكنية، وقلوبهم بالخوف ممتلئة مخافة ضربة ثالثة، أشلاء بشرية مبعثرة، يد هنا، قدم هناك، أطفال يبكون، نساء يصرخون، ورجال يحملون الجرحى …
يوم الثلاثاء الأسود، يوم لا أملك سرد المزيد من تفاصيله، استشهد فيه صديقي الذي عاد إلى الغرفة بعد خروجي بدقائق قليلة، نجوت أنا ورحل هو، أما حصيلة باقي الشهداء فقد وصلت إلى (87) مدنيًا غالبيتهم من الطلاب، استشهدوا بصاروخين رمتهم طائرة حربية تابعة للنظام السوري، إذ لم يكن أحد يملك طائرة حربية سوى نظام الأسد الذي يقتل شعبه، ويمها لم تكن روسيا قد تدخلت لقصفنا مع بشار الأسد!
لكن في نشرة الأخبار مساء نسب إعلام النظام المجرم المجزرة إلى لواء التوحيد، وفي رواية أخرى لسيارة مفخخة!
مرت سبع سنوات ومازال أثر دم صديقي على كتاب الطب البديل الذي كان يحمله في يده، مازال اسمه على الكتاب ومازلت أراه في المنام شهيدًا جميلًا وطبيبًا لم تكتب له الحياة.