جاد الغيث |
البارحة كان عيد ميلادي، وهو يوم لم يهدأ فيه الطيران الحربي، فقد تعرضت (34) بلدة وقرية للقصف الجوي في ريف إدلب وريف حماة، كان يومًا أسود يُعيد إلى الذاكرة أيام تهجير أهل الغوطة وأهل حلب الشرقية.
في السنوات التي مضت واليوم، نزوح جديد من أرص الوطن الذي تُرمى عليه حمم الحقد والبغض و الطائفية، إلى قرى وبلدات ومخيمات أكثر أمنًا.
في الطريق ارتسمت على وجهي ابتسامة خفيفة مليئة بالحزن، حين وقعت عيناي على اسم قريتي مكتوب على لوحة زرقاء بخط أبيض اسم (المستريحة) ترحب بكم!
ولأول مرة أشعر بأن اسم قريتي لا يناسب حالها قطُّ، فهي اليوم عكس اسمها تمامًا، لم تعرف الراحة من القصف منذ عشرة أيام، ولم يعرف أهلها سوى الخوف والذعر.
الطريق يغصُّ بشاحنات صغيرة ممتلئة بأجساد مذعورة ترتجف خوفًا وهلعًا، تُغادر بيوتها مُكرهة، وآخر ما تقرأ عيونها كلمات تبدو كخنجر يطعن القلب (المستريحة) ترحب بكم! بينما حمم القذائف تحصد الأرواح المُتبقية!
أنا الآن على دراجتي النارية وزوجتي خلفي وهي حامل على وشك الولادة، تحتضن طفلي الذي لم يكمل عامه الثاني، لم أحمل شيئًا من متاع بيتي، سوى كيسًا أسود كبيرًا محشوًّا بملابس ضرورية، ربطته بصعوبة على دراجتي النارية، وملأت قلبي بغصات وآهات، وغادرت (المستريحة) ولا شيء في قلبي غير الله، ولا ذكر على لساني سوى (حسبي الله ونعم الوكيل)، مع خوف وقهر وألم أن أعود إلى بيتي قريبًا فأراه مدمرًا، أو قد لا أعود أبدًا.
ليست قريتي الوحيدة التي تُقصف، إنما في طريقي إلى مخيمات بلدة (أطمة) شاهدت آلاف العائلات النازحة من قرى مجاورة لقريتي: من (كنصفرة، ومعرة حرمة، وكفر نبودة، وحاس، وبسقلا، وترملا، وقوقفين، والحويجة، والبارة ….) وكثير من القرى الأخرى التي كان أهلها يتمنون أن يصوموا شهر رمضان في بيوتهم، وينعمون بلمة العائلة على مائدة الإفطار، وإذ بكثير من هذه العائلات تفتقد أحد أفرادها غدا شهيدًا وانضم إلى مائدة الجنة التي احتوت شهداء جدد لم يشهدوا شهر رمضان على كوكب الأرض!
في الطريق تعبت زوجتي وأحسَّت بألم المخاض، استرحنا قليلاً بين أشجار الزيتون، من يرى المشهد من بعيد يظن أن الناس في رحلة ربيعية وقد افترشوا الأرض لينعموا بدفء الشمس ونسمات الهواء اللطيفة، لكن من يقترب قليلاً، يرى وجوهًا حزينة ليس لها مأوى، تفترش الحصير مع بعض إسفنجات وأغطية، تنتظر منظمات الإغاثة أن تجد لها مكانًا تأوي إليه!
مشهد يمزق قلب الربيع، ويجعل أزهاره ذابلة حزينة، فالنازحين في كرب وأسى، والربيع لم يعد له معنى.
قبيل الغروب كنت مع زوجتي في مشفى (أطمة)، ومع صوت المؤذن يرفع أذان المغرب، سمعت صرخة طفلي الثاني يستقبل الحياة نازحًا لا يعرف إلى أين، وسرعان ما توقف عن البكاء واستسلم لنوم عميق، حملته وكان وجهه ملائكيًّا وأنفاسه تعطر روحي المتعبة، راحت دموعي تنهمر بلا توقف، ولساني يدعو الله له بأيام طيبة مباركة، توسعت دائرة دعائي وارتفع صوت بكائي، ولساني يردد أذكارًا وأدعية كنت أظن أني نسيتها، أصابني ما يسمى بخشوع القهر، وأعادني صوت صراخ لم أعرف مصدره إلى عالم الألم، فهؤلاء جرحى جدد وصلوا إلى المشفى، بينما ربت رجل لا أعرفه على كتفي مبتسمًا قائلاً لي: “الله يحميه، شو بدك تسميه؟؟” ابتسمت، ودون تردد قلت: وطن!