غالبًا ما تسرقني موجة من النوم، لأحلم بالوجوه التي طالما استوطنت قلبي بطيب أفعالها، فينتابني السرور حينها، إلا أنني أقف أمامهم مربوطة اللسان عاجزة عن أخبارهم بحقيقة الحياة المُرّة بعد غيابهم، وماهي إلا دقائق حتى يقيدني شيء مجهول ذو صوت عالٍ يختلط به إخافة النفس وإزعاج المسمع، وفجأة ينهار سقف البيت فوقهم من دون أن أساعدهم وأرى أشلاءهم تتطاير هنا وهناك ناثرة الدم في أرجاء المكان، ثم أصحو صارخة بأعلى صوتي “لولا صلاة العصر لكنت الآن معكم”، ما إن تسمعني أمي تركض إليَّ وتضمني لتهدئتي.
أقسم ذلك الكابوس على أن يزورَني بين الفينة والأخرى، ليسمّم ذاكرتي بالمجزرة التي وقعت في بيت عمي محمد وأودتْ بحياة 9 أشخاص من أقاربي، آنذاك كان الربيع على الأبواب ننتظر طرقه الناعم الجميل، لكن فرحتنا لم تكتمل، بسبب إصابة عمي محمد بجلطة زادت حالته سوءًا لدرجة بدأت ملامح قرب الأجل تبدو على وجهه، فقصده الأقارب من كل حدب وصوب.
وفي أحد الأيام كنا نتجهز أنا وأمي لعيادته، وخصوصًا بعد أن علمنا أن بعض أقاربنا اجتمعوا حوله على شرفة بيته. هناك ساد جو من الصمت على الشرفة حيث كانت تجلس شام ابنة المريض إلى جانبه بثقل، لوجود جنين ذي ستة أشهر في جوفها، ومعها صغيرها باسل مقطَّب الجبين، فتلك أول مرة لا يكترث جده لوجوده، بينما في السابق كان يستقبله بالهدايا والمأكولات اللذيذة.
كان ذلك الطفل مثبتا نظره باتجاه خالته صبحة المشغولة بمراقبة حال والدها الصحية، فهي ممرضة وذات خبرة كشفت لها أن وضع والدها ميؤوس منه، إلا أنها كانت تحاول بأقصى جهدها أن تبين لوالدتها أن الأمور لا تزال تحت السيطرة. بعد مرور نصف ساعة من الصمت المطبق على الجميع، وإذا باتصال من خالد أخو المريض يقطع عليهم هدوءهم ليخبرهم بموعد قدومه مع زوجته للاطمئنان على حال أخيه.
هممت أنا وأمي بالذهاب مصطحبين معنا خالتي، وإذا بأذان العصر، فرجعت لأؤدي فريضته، وقتها أخذت صلاتي مني 3 دقائق، بعد إنهائها خرجت، فجأة هاج في مسمعي صوت غارات الطائرة على حارتنا، ولشدة قوته تيقنت أن الضربة في بيت عمي، فعلا صراخي الأجواء بشكل هستيري منادية “أمي”، لا أعلم كيف قادتني قدماي إلى هناك، بلحظة وجدت نفسي في مدخل البيت أمام جثة عمي خالد ملقاة على الأرض بجانب جسد زوجته التي فقدت رأسها، وكان معهما ابنهما، دفعت نفسي إلى الداخل فوجدت عمي محمد ميت بشظية أصابته برأسه وحوله شام ممزقة البطن ومنه خرج جنينها، وأختها صبحة ماثلتها بالإصابة، أما خالتي فكان لها نفس المصير ألا وهو الموت، إلا أن أمي وزوجة عمي ما زالتا على قيد الحياة، لكن أمي مصابة بقدمها وزوجة عمي تنزف، فهرعت إلى الخارج أطلب المساعدة، كانت أمي تصرخ من شدة الألم، بينما كنت بجانبها أبكي بحرقة، لم يتسنَ لي الوقت لأفكر بالراحلين، كان جلُّ همي ألا أفقد أمي وأن تشفى زوجة عمي، تمكنا من العثور على سيارة لنقلهما إلى المشفى، وهناك تم البدء بعلاجهما.
بعد فترة وجيزة من الزمن، خرجنا من المشفى، لتحسن أمي، حيث لم تعد تحتاج إلا لتبديل الضمادات الطبية بين فترة وأخرى، بيد أن زوجة عمي فقدت الرؤية بإحدى عينيها. وصلت إلى الحارة في الليل، لم أتقبل حينها فكرة أن المصيبة قد حلت، فأخذت أقنع نفسي بأنه مجرد وهمٌ سينزاح مع حلول الصباح، لكن مع إشراقة الشمس صُفعت بأجواء العزاء المقامة، لخطف ناظري منظر الدمار الذي خلفه القصف، حاولت أن أتماسك تفاديا لزيادة الأسى على قلب أمي، لكن مقلتي خانتاني، فأسندتني جارة لي في الحارة بوضعها يدها على كتفي، قائلةً “بيتعوض العمار ياقلبي”، فما كان مني إلا الصمت والحرقة تلتهم وجداني، وبالأخص بعد أن سألني صوت في داخلي “والذين استوطنوا قلوبنا هل يعوضون؟”. إلى متى سنبقى ببلدنا نفقد من نحب ونلملم التراب عليهم؟ متى سنعيش مثل باقي البشر بعيدين عن الحرب وجميع ما يتعلق بها؟