فرات الشامي |
الوصول إلى باب المدرسة اﻻبتدائية في ثمانينات القرن الماضي كلفني الكثير من الدموع.. لم أكن عرفت معنى اﻻعتقال، لكنه إحساسٌ غريب دفعني للعدول عن دخول تلك الباحة الضيقة، واﻷسوار المرتفعة، ليؤصد الباب الأسود الحديدي عن عالم الطفولة.
كبرنا وإن لم نهرم، لكننا اكتشفنا دقائق ذلك اﻹحساس القديم، عرفنا متأخرين أننا عشنا خلف أسوار سجونٍ وضمن أفرع مخابراتٍ، خلف مقاعد خشبية، من الساعة الثامنة صباحاً حتى الثانية عشر والنصف ظهراً.
لحظاتٌ امتلأت رعباً منذ دخول المدرسة في طابورٍ طويل نردد: “حماة الديار … عليكم سلام
أبت أن تذلّ النفوس الكرام”
لكن النفوس تُذلّ في كل ثانيةٍ بدايةً من كلام مدرب الفتوة في المرحلة اﻹعدادية والثانوية (أستاذ العسكرية) الذي يرتدي الزي العسكري، واضعاً على خصره مسدساً من نوع لاما ومخزنين! إن حمله للسلاح أمرٌ مشروع مبرراً بقوله: “أنا رفيق عضو عامل بصفوف الحزب، والمرحلة تتطلب حمل مسدس؛ بما أننا نعيش مرحلة صعبة بتاريخ سورية دولة المواجهة مع الكيان الصهيوني التوسعي.”
أبت أن تذل النفوس الكرام.. لكننا نبدأ النشاط الصباحي بالشتيمة القبيحة واﻷلفاظ النابية التي يطلقها الموجه والمدير والشخصية المحورية “مدرب العسكرية”، ثم تبدأ فنون الزحف في الباحة المدرسيّة ومسح الأرض بثيابنا التي أنهكت أيدي أمهاتنا كياً وغسلاً لها، بعد كلِّ ما يسمونه “تدريباً أو عقوبة”.
نرددُ دون فهم بعد أن يقول عريف المدرسة: ((عهدنا)) نجيب بصوتٍ واحد: “أن نتصدى للإمبريالية والصهيونية والرجعية. ونسحق، أداتهم المجرمة عصابة الإخوان المسلمين العميلة”.
كرهنا كل تلك المسميات الكبيرة التي لم يتسع فهمنا لها ولخلفياتها التاريخية، كأننا نرضع كرههم يومياً. والغريب أنّ أحداً لم يخبرنا تفاصيل عمالة اﻹخوان المسلمين، ومعنى الرجعية، واﻹمبريالية التي عجز الغالبية من الطلاب عن نطقها.
ارتدينا الزي العسكري الكامل، ونحن نحلم بارتداء ثيابنا العادية التي نرتاح بها.. لكن هيهات؛ فالمرحلة حساسة والمؤامرة ضد سياسة السيد الرئيس، الطليعي اﻷول، الرفيق حافظ اﻷسد، كانت بلغت ذروتها، كما يقول مدرس مادة “الوطنية”، أو ما عُرف في مراحل ﻻحقة “القومية العربية”.
منذ المرحلة اﻹعدادية وحتى الثانوية نرتدي البدلة العسكريّة الخضراء، والحذاء اﻷسود، “بوط عسكري حصراً”، وربطة عنق مع قميصٍ أخضر، وسيدارة/قبعة تعلو الرأس، حتى الجوارب سوداء، وأخبرونا أن ذلك ﻹرهاب العدو.
ومن ضمن سياسات اﻹرهاب للعدو حلق اللحية، يتلمسها مدرب الفتوة ويصفع من طال شعر وجهه، لكننا لم نكن دولة إرهابية على العكس، كنا نحارب ونكافح الفكر المتطرف والترهيب.
حفظنا الفاتحة العسكرية عن ظهر قلب، قال لنا مدرب الفتوة: “إنها مثل فاتحة القرآن!” بل إنها العقيدة التي يجب أن نحفظها في صدورنا قبل سطورنا.
مازلت أحفظها كما هي: “بما أنَّ قوة الجيش في نظامه، فقد اقتضى ذلك أن يحوذ القائد على طاعة مرؤوسيه التامة وخضوعهم له في كل اﻷوقات، وأن تنفذ اﻷوامر بحذافيرها دون تردد أو تذمر، فالسلطة التي تصدرها مسؤولةٌ عنها.” ثلاث صفحات في تمجيد القيادة وتعلم معاني اﻻنبطاح، والديكتاتورية العسكرية.
غسيل أدمغة، ﻻ يقل خطورةً عمَّا يُحكى عن الحركات المتطرفة التي تغرس إيديولوجياتها في عقول عناصرها.
عشنا خارج حدود المنطق والمعقول.. قلةٌ من دوّن يوميات حياته الصفرية في دفترٍ صغير، داخل زنزانةٍ حسبناها وطناً، ملحقاً باسم القائد الخالد وآل بيته الطاهرين.
في كنف تلك السنوات العجاف، حكاية شعب وملحمة إنسانية، حملنا على صدورنا فيها الرقم “صفر” اقتربنا من العدم أو ﻻمسناه فوق مسرحٍ مسيجٍ ومرصوفٍ بالشوك.. بدأ الفصل اﻷول من الرواية في قاعة الدرس، ثم تدرجت فصول المسرحية، وكتبنا عن المخابرات والحياة الرخصية
فتابعونا…