جاد الغيث |
طوال سنوات الثورة والقذائف تنهال على مبنى الإذاعة التي أعمل بها، وعلى مدى سنتين من عمر برنامجي الصباحي (صباح الخير يا حلب)، غالبًا ما كانت الطائرة المروحية تتبعني في طريقي من البيت إلى الأستوديو، أو تلقي برميلاً متفجرًا بعد دقائق قليلة من تحية الصباح المباشرة على الهواء من أجمل وأخطر مدينة في العالم.
لم يكن شعورًا لطيفًا أبدًا أن تبدأ صباحك بصوت المروحية بدلاً من زقزقة العصافير،
ولكن أنت هنا في حلب الشرقية.
كنت أعيش صراعًا مُرًّا حين أعلم عبر أجهزة اللاسلكي مكان سقوط البرميل، وأتصور الدمار والدماء ووجوه الشهداء، بينما أتحدث على الهواء مباشرة مع المحاصرين الصابرين مبشرًا قلوبهم بالأمل وأن ليس بعد الضيق إلا الفرج.
أحيانًا كانت الأغنية المرافقة لكلماتي تزيد الصراع عمقًا وقسوة، كأغنية (واحد واحد واحد الشعب السوري واحد) وأتخيل وجه الطيار وهو يقود طائرته المروحية ويقتل أبناء بلده بقلب بارد.
لا أظن أنه أساسًا يملك مشاعر أو إحساسًا عابرًا، ترى هل لديه أطفال؟!
هل أحب أحدًا ما يومًا ما؟! كانت أسئلة من هذا القبيل تملؤني بالرعب والقلق وتدور سريعًا في رأسي قبل أن يأتي موعد الفاصل الإذاعي الذي ينقل المستمعين من فقرة إلى أخرى.
في أيام الحصار توقفت عن إذاعة فقرة (صحة وحياة) التي كانت تقدم معلومات صحية عن الأغذية، خاصة وأن أهل حلب مشهورون بمطبخهم الغني بالأطعمة الشهية، لكن في الحصار لم يعد هناك خضار وفاكهة ولحوم، واقتصر طعامنا على البقوليات وبعض المؤنة المخبأة.
لم يمت أحد من الجوع في حصار حلب الشرقية، بالمقابل فإن أسعار السلع الرئيسة صارت خيالية.
كان سؤال مُلح يطرق رأسي باستمرار وأنا أرتب كلماتي لتغدو أكثر جذبًا وألحِّن بصوتي ليشد انتباه المستمعين.
وفجأة كان رجل ضخم يخرج من وراء علم الثورة المعلق على الجدار الأمامي في الأستديو! يصرخ في وجهي بقسوة: “ماذا تقول أيها الأحمق! عديم الضمير! الناس تموت وأنت تتفنن في الصوت والكلمات!”
كنت أتخيل ذلك الرجل بوجه غاضب وشديد السمرة، وكنت أتجاهله كأنه سراب!! كما أتجاهل أصوات القذائف التي لا تهدأ والتي تصل إلي بوضوح وأنا في قلب الأستديو المعزول صوتيًا عن العالم الخارجي.
ولكن حين يسقط برميل متفجر في منطقة قريبة حولنا كنا نفتح باب الأستديو ونهرع أنا وزملائي إلى الشرفة لنرى سحابة كبيرة من الدخان والغبار تعلو في السماء. وأصوات سيارات الإسعاف تصبح أعلى من أصوات هلع الناس.
وكل ذلك لم يكن مانعًا من إتمام برنامج الصباح الذي كان ينتهي في العاشرة من صباح كل يوم بعبارات مفعمة بالتفاؤل. بصوتي الحزين الدافئ كنت أكرر دائمًا في الدقيقة الأخيرة: “وإلى اللقاء غدًا، أصدقائي، مع حلقة جديدة على أمل أن يكون غدًا أجمل وأفضل”
مرت ثلاثة أعوام على إذاعة آخر حلقة من برنامجي (صباح الخير يا حلب)، ولم تنتهِ بعد معاناة الشعب السوري المملوء بالألم والصمود، وماتزال الطائرات الحربية تهدم البيوت فوق رؤوس الأبرياء، ومازلت كل صباح أهمس في سري وأنا على يقين بأن غداً سيكون أفضل وأجمل.