تكثر في الأدب والتاريخ قصص أولئك الظرفاء الذين كانوا يضفون على جلسات الخلفاء جوًّا من المرح والدعابة اللطيفة فيتقربون عن طريقها من السلطة.
تصور هذه اللقطات الفكاهية رجالاً لم يبالوا بالتطورات السياسية التي تخلق صراعاً على السلطة، إذ يكتفون بمهمة طرح الدعابة على السلطان وحاشيته فيكسبون وده أحياناً وماله في أحيان أخرى.
ويضجُّ العصر العباسي عصر الأدباء والتدوين والعلماء بهؤلاء الذين شكلوا طبقة لا بأس بها إلى جانب الطبقات السياسية والأدبية الأخرى، وممَّا زاد من أعدادهم حالة الترف التي أصابت الخلفاء في هذا العصر، فراحوا يغدقون الأموال على الشعراء وكل من يمدح الخليفة أو يرسم ابتسامةً على وجهه، وكان الخلفاء يعمدون إلى ذلك لضم أكبر عدد من الأنصار في البلدان والأمصار.
كان أبو دلامة زند بن الجون الأسدي الكوفي العبد المولّد الحبشي جيد الفصاحة والبلاغة، يحبُّ الفكاهة والظرافة، رُوي أنه كان مولى لبني أسد، وقال بعضهم: إنه كان أعرابياً أو عبداً لرجل من أهل الرّقة شرقي سورية على الفرات من بني أسد فأعتقه.
وأيًا تكن نسبة أبي دُلامة فقد شَهِد الرجل تهميشاً في عصر الدولة الأموية، حيث لم يكن للموالي مكانة عند الأمويين، فلمّا جاءت الدولة العباسية انضمّ إليها وصار من “المقربين من المنصور”، وكان اللقب المتداول على حاشية الخليفة أبي جعفر المنصور، على أنه في موطنه بالكوفة عُرف في ذلك المجتمع المحلي بالطرائف والظرائف، ويبدو أن صيته بدأ في الانتشار بالتزامن مع صعود أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني الذي اتخذه من ضمن حاشيته، فعلا شأنُ أبي دُلامة، وأصبح الرجل بين عشية وضحاها ممن يُشار إليهم بالبنان حتى ولو كان “بهلوان” الخليفة!
وقد دعاه أمير الكوفة روح بن حاتم المهلّبي ذات مرة إلى النزول في حلبة القتال أمام أحد الفرسان، فرفض أبو دُلامة لأنه لم يكن يدري ما القتال وما الطعان ولا الضراب وخاف وارتعد، لكن الأمير أصرّ فلما رأى أبو دُلامة إصرار الأمير قال: “إني جائعٌ فأطعمني؛ فدفع إليه خبزاً ولحماً؛ وتقدّم فهمّ به الرجّل، فقال له أبو دلامة: اصبر يا هذا أيّ محاربٍ تراني؟، ثمّ قال أتعرفني؟ قال الفارس لا؛ فقال أبو دلامة فهل أعرفك؟ قال لا، فقال فما في الدنيا أحمق منّا ودعاه للغداء، فتغدّيا جميعاً وافترقا فسأل روحٌ عمّا فعل، فحدّث وضحِك ودعا له فسأله عن القصة فقال:
إنّي أعوذ بروحٍ أن يقدّمني إلى القتال فتُخزى بي بنو أسد
آل المهلّب حبُّ الموت ورثكم إذ لا أورث حبَّ الموتِ عن أحد
وحدث مرة أن الخليفة علم أن أبا دُلامة خرج من عنده وشرب وسكر، فأرسل الخليفةُ من اعتقله وهو سكران، وأمر السجّان بأن يضعه في حظيرة الدجاج في السجن، فلما أفاقَ وعرف بالخبر كتب للخليفة شعراً يقول:
أميرُ المؤمنين فَدَتك نفسي ففيمَ حبستني وخرقتَ ساجي
أُقاد إلى السجونِ بغير ذنبٍ كأني بعضُ عُمّال الخراجِ
فلو معهم حُبِسْتُ لهان وجدي ولكنى حُبستُ مع الدجاجِ!
فضحك الخليفة وأطلق سراحه.
ولأبي دلامة طرائف كثيرة مُلئت بها بطون الكتب التاريخية وما ذكرناه إلا غيض من فيض من تلك المواقف التي مرَّت به في بلاط الخلفاء.