في ظل التخبط الذي تعانيه الإدارة الأمريكية بعد قرار ترمب بالانسحاب من سورية خلال ستة أشهر في توجه يتعارض مع إستراتيجية أعضاء إدارته، عُقدت في أنقرة قمة جمعت الدول الضامنة لمسار أستانة، وكان أهم ما ورد في بيانها الختامي التأكيد على مسار أستانة، في تحدٍّ لمساعي الدول الغربية التي بات واضحاً أنها لا تريد لبِركة الدم السورية سوى أن تزيد اتساعاً لإغراق من فيها وعلى رأسها روسيا مقابل أن تتباكى على منابرها الإنسانية من أجل سورية.
قمة أنقرة جمعت بالأمس القريب الأصدقاء الأعداء على أرضية واقعية تستند في معطياتها على تفاهمات ومصالح إقليمية ودولية فيما بين هذه الدول، فكان لابد من طاولة تعلو بهم عن دائرة رحى الحرب السورية لتجنب الاحتكاك والتصادم وإدارة هذه العلاقة من خارج الصندوق السوري بعد اكتشاف الأسافين التي تحاول الدول الغربية دقها فيما بينهم من البوابة السورية.
البداية في حاجة الطرف الإيراني ” حليف الأسد والروس” لتركيا كبعد إستراتيجي في المنطقة وخصوصاً بعد التهديدات المستمرة من الولايات المتحدة بإنهاء الاتفاق النووي وما قد يعقبه من فرض لعقوبات تعيد طهران لعزلتها السابقة، وعندها ستعود تركيا الرئة التي تتنفس منها إيران.
وتحاول طهران التقارب بشكل أكبر مع أنقرة بعد المظاهرات التي عمتها وساندت بها تركيا الرواية الرسمية لطهران، كما أن نشاط المحور الخليجي الذي تقوده السعودية في مواجهتها تحتاج فيه طهران للثقل التركي كعمق إسلامي وإقليمي تناور به ضد السعودية رغم محاولات أنقرة عدم استعداء الرياض والوقوف على مسافة واحدة من طرفي الصراع.
والأهم من هذه الحسابات بالنسبة إلى إيران هو تحوُّل تركيا في سياستها الإقليمية والدولية من المنطلق الذي يعتمد على القوة الناعمة إلى استخدامها للقوة الخشنة من خلال عمليتها العسكرية شمال سورية والعراق وقواعدها التي نشرتها في المنطقة، لذلك ليس من المجدي لطهران التصادم مع تركيا بعد هذا التحول.
أما بالنسبة إلى تركيا فإن تقاربها مع إيران يحقق لها السيطرة على الخطر الذي تعتبره مهدداً لأمنها القومي المتمثل بالتحركات الكردية شمال العراق وسورية، وقد أدى هذا التعاون إلى إسقاط تطلعات الأكراد بانفصال في العراق، وقوض أحلام التنظيمات الإرهابية في شمال سورية بتحقيق ذلك أيضاً، بالإضافة إلى الدور الذي لعبته إيران في كسر الحصار المفروض على قطر الدولة الخليجية الحليفة لتركيا.
وتعلم تركيا مدى السطوة الإيرانية على قرار النظام السوري ممَّا يجعلها صمام أمان لمواجهة أي تآمر قد يسعى الأسد له مع تلك التنظيمات.
في حين يعتبر الغاز الإيراني المحرك الأساس لنمو الاقتصاد التركي الصاعد وتلبية لاحتياجات السوق التركية.
هذه الحسابات وغيرها تدفع كلا الطرفين للحفاظ على مستوى جيد من العلاقات والتعاون لا يخلو من فرضية التنازل المتبادل على المستويات كافة.
وبالنسبة إلى الضامن الثالث “روسيا” فالسياسة التركية تغيرت اتجاهها بعد حادثة الانقلاب الفاشل الذي لعبت روسيا بكشفه دوراً استخباراتيا مهماً، ومنذ تلك الفترة بدأت العلاقات تأخذ بعداً إستراتيجياً بين البلدين، ونجحت تركيا في استقطاب الموقف الروسي إلى جانبها فيما يتعلق بالتهديدات الأمنية “المسألة الكردية” حيث كانت هذه التنظيمات تلعب على وتر الحماية الروسية الذي قطعته أنقرة بتعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي والعسكري مع موسكو بتسريع مشاريع الطاقة (أنبوب السيل التركي و المحطة الذرية والتوقيع على صفقة الأس 400).
أما على الصعيد الدولي فالتقارب التركي نحو روسيا هو البديل الذي يهمس به أردوغان في آذان الأوربيين ويواجه به تسويف انضمامه للاتحاد الأوربي وخداع الولايات المتحدة له.
وبالمقابل تعتبر تركيا شريكاً اقتصاديا مهماً لروسيا وأحد عوامل كسر عزلتها التي تحاول الدول الغربية فرضها عليها ويسعى لخرق منظومة الناتو من خلال تركيا التي تعتبر قواتها البرية عماد هذا الحلف.
كما أن تركيا تعتبر وسيلة ضغط على المعارضة السورية بالنسبة إلى موسكو رغم وقوف كلا الجانبين على طرفي نقيض في سورية.
تبقى علاقة هذه الدول رهن المتغيرات والمصالح، فإدارتها بين مد وجزر وتنافس وتعاون لا يصب سوى في مصالحها القومية فماذا عن السوريين؟
وأقصد هنا السوريين بكُليتهم، فالدولة السورية وعلى رأسها تلك السلطة باتت ورقة مساومة وضغط في أجندات ومصالح الروس والإيرانيين، بينما المعارضة تعرَّت من تضحيات أبنائها وسلمت قرارها للمجهول في دهاليز حلفائها وعلى رأسهم تركيا، ولنا بموقف محمد بن سلمان الأخير خير مثال.