أول ما يلفت انتباهك في كلامه طريقته الغريبة في لفظ حرف القاف، كأنه على عداء مع هذا الحرف تحديدًا، فلا يعطيعه حقه في النطق، لكن بسرعة يمكن أن تألف (خليفة) الطيب الهادئ الذي اشتهر بكثرة ساعات النوم.
يبدو طويلاً ونحيفًا أكثر من المطلوب، ووجهه يوحي بطفولة، وعيناه الخضراوان مشعتان من تحت نظارته الطبية.
في قريتهم الهادئة والساحرة بطبيعتها الخضراء تكثر أشجار الكرز والمحلب، فالعم (أبو خليفة) يستيقظ قُبيل أذان الفجر ثم يُصلي ويتجه نحو أرضه القريبة من داره التي ينبغي أن يقطف من أشجارها ثمار المحلب، بعدها يعود إلى البيت ليأخذ قسطًا من الراحة ويعاود العمل حتى غروب الشمس.
بعد العصر بقليل كنا أنا وخليفة قد وصلنا إلى مدينة أريحا، ومنها إلى دارهم في (كفر حايا) كانت أمه ذات نغمة الصوت المحببة قد عادت لتوها من الأرض، وبدأت تتجول في أنحاء البيت تتعهده بالترتيب.
أكثر ما يأسر قلبك إطلالة البيت البسيط الواسع، فترى أمامك من الشرفة الواسعة منظرًا بديعًا من الأشجار الخضراء المصطفة بجوار بعضها البعض بسحر لا مثيل له، ويأتي غروب الشمس ليزيد المشهد روعة وإجلالاً كأنك ترتقي في سماوات بعيدة!
كل هذا السحر لم يعد له أثر في قلب والديّ خليفة بعد استشهاد ابنهما (محمد) الابن الأوسط والأكثر حبًا لقلبيهما.
ترك محمد زوجته في بيت أهله برفقة ابنه (فارس) صاحب الثلاثة الأعوام، وفي بيت العائلة أيضًا تعيش الأخت الكبرى بصحبة ولديها بعد أن ارتقى زوجها شهيدًا.
تبدو حياة (كفر حايا) هنية بعد أن توقف القصف، وأبواب البيوت مغلقة في فترة الظهيرة الحارة، والقرية تسبح في سكون عجيب، لكن أبواب الأحزان لم تغلق بعد، فكيف لأم الشهيد وزوجته أن تنسيا حزنهما؟! وكيف يمكن لوالد الشهيد وأخوته أن يغيبوا صورة وجهه عن ذاكرتهم وهم يرونه بالقلب وتلمح العين رسمه المعلق على الجدار؟!
أما أطفال الشهداء فقد تغيرت أحلامهم وصارت تبدو غريبة، بعضهم يريد أن يكبر بسرعة لينتقم من جيش الأسد الذي قتل عائلته، والبعض الآخر يريد أن يذهب إلى والديه وإخوته في الجنة، إنه حلم (زيد) الذي يعيش مع عائلة عمه (ماهر) بعد استشهاد والديه وأخته الرضيعة.
وكأن حياة الكثير من عائلات سورية صارت قائمة على مبدأ الممنوع، ممنوع الإحساس بالأمان، فالمنطقة قد يعود إليها القصف في أي لحظة، ممنوع اجتماع العائلة الكبيرة على مائدة واحدة فأحد الأبناء شهيد، والآخر معتقل، وثالث ركب البحر مع عائلته الصغيرة وهاجر بعيدًا، حتى النفس قد يغدو ممنوعًا فيما إذا استخدم النظام السلاح الكيماوي بحق الأبرياء كما فعل في مرات سابقة.
كل هذه الأفكار كانت تدور في رأسي وأنا أراقب خليفة وهو يشعل الحطب ليبدأ بشواء اللحم لاقتراب موعد الغداء أسرعت لفرد ما تبقى من ثمار المحلب الصغيرة على سطح بيت صديقي خليفة، إذ يجب أن تجفَّ تحت أشعة الشمس.
كان صوت الخالة أم خليفة مايزال يصل إلي حنونًا متعبًا: “لا تتعب نفسك يا بني، بعد المغرب منكمل”
لكنني كنت مسرورًا برؤية حبات المحلب الصغيرة وهي تتمدد بارتياح على سطح البيت، إنها ذكرتني بشهداء حلب الشرقية الذين كانوا يتمددون على الأرصفة بانتظار ذويهم ليتعرفوا عليهم ويحملوهم إلى مثواهم الأخير، كم كان المشهد مؤلمًا وسيبقى، خُيِّل لي حبلاً طويلاً جدًا من دم قانٍ يسيل على السطح يمرُّ بهدوء تاركًا رائحة عبقة.