فرات الشامي |
أمسك بيدها الصغيرة الناعمة، تسلل البرد إلى جسدها، لم يجد وقتاً لعناقها في حارات دمشق العتيقة تلك الليلة الموحشة، فثمة ما يجبره على اﻹسراع بخطىً كأنها الوثب فوق السحاب، على أرصفةٍ مكسرةٍ وجدرانٍ حجريةٍ اعتقد طويلاً أنها تنبض بالحب، لكنها مسكونةٌ اليوم بعباراتٍ مقززة، وصور خامنئي وبوتين، يتوسطهما بشار اﻷسد، يعلوه حسن نصر الله.
ثمة أيضاً ضوءٌ من بعيد، دكان أبي خالد بائع الحلوى لم تغلّق أبوبها بعد، فالرجل مسنٌ ولم يبقَ سواه في وكره الذي خلا من الصحب وعشاق الشطرنج والنرد، تقترب “حلا”، تشير بأصبعها بالسبابة دون أن تفكر لحظةً لمَ سماها الكبار “سبابةً”، وبيدها اﻷخرى تشدّ معطف والدها، أبي.. اشترِ لي من قطعة الحلوى تلك.. أبي اشتهيتها… أبي… أبي.
لم يكن شارداً أمام ندائها المتكرر، كان يتحسس النقود التي بقيت داخل جيبه… يده دخلت ولم تخرج، كأنها تاهت في ذكريات اﻻمتلاء ومتاهة الخلو، أخرجها خاليةً، ثم اقترب يدنو رويداً رويداً، نظر في عينيها، يا ابنتي الحلوى تتلف أسنان الصغار، سبق أن أخبرتك بذلك، نسيتي؟!
ركنتْ إلى السكون، أرختْ نظرها إلى اﻷرض مثل والدها، وتابعا السير على عجلةٍ كلاهما بدا على وجهه عدم اﻻقتناع بالعذر، لكن ﻻ وقت للمجادلة، كان البرد عاملاً حاسماً في إسكات اﻻثنين، وﻷول مرةٍ يساند حضوره موقف الوالد أمام ابنته.
لم تفلت من ذاكرتي تلك الحكاية حتى في لحظة الكتابة عن المشهد السياسي، كانت تؤرقني، تطاردني، حتى أثناء اﻻشتباك قبل نحو عامين مع قوات اﻷسد، كأنها صوت البندقية، تلك تهتف بالرصاص واﻷخرى بالحق المسلوب، وقلم عاجز إلا عن… الغرق في الوحل.
وربما ﻷنني ابتعدت عن ألم الناس فقد سرقت السياسة وتتبع أخبار الحرب بين المعارضة والموالاة كل دقائق التفكير حتى اﻻنسجام الذي ألفته في لغتي وحروفي، لكأنما بتُ كغيري ممَّن يشاطرني الرأي من المنصفين أننا نغوص في وحل الخديعة على بِركةٍ من الدماء، مع مشهد تناثر اﻷشلاء والضحايا على ضفتي المستنقع… نكتب لنحلل الواقع في زمنٍ يطاردنا فيه واقعٌ أكثر إيلاماً وأنيناً، يدخلنا صراعاً وجدليةً بيزنطيةً بلا طائل عن هوية الكتابة وعبثية ما يدور، عن الجلاد والضحية، عن استسلام الذبيحة للجزار، ﻻ لشيءٍ إﻻ رغبة في البقاء على قارعة اﻹحساس بالخذلان.
اخترت تلك اللحظة أن أسكت القلم، تذرعتُ بالمرض، حرك صديقي “غسان” همتي للكتابة مجدداً، رغم أني عزمت اﻻبتعاد عن ملاحقة تغريدات الرئيس اﻷمريكي، دونالد ترامب، وتحليلات المشهد العسكري، قطعاً ﻷنه ثمة خلف النافذة حقيقةٌ اعتاد الصحفيون على رصد نظيراتها، من باب فريضة الكتابة لتحصيل اﻷجرة، في زمنٍ يرتدي فيه اﻹعلام ثوباً مستعاراً وعيناً مأجورة، إﻻ من رحم الله! فما نفع أن تكتب عن مشهد المأساة وإغراق الصحف بالتراجيديات السورية؟! وما نفع أن تحلل الواقع السياسي في لحظةٍ تشهد فيها على سرقة الوطن؟!
أقنعتُ نفسي باعتزال السياسة شهراً كاملاً، ﻷزيح في ركن المنزل المتهدم الذي أسكنه غبار السنوات عن جثث الحكايات المنسية، التي تحولت إلى مادةً تباع في سوق المحطات الفضائية للاستهلاك واﻻبتزاز ليس أكثر، حتى أصبح السوري وجهاً غير مألوفٍ إﻻ فوق موائد القهر، يردد مقولة الغائب الحاضر، ممدوح عدوان:
“في الحارات المهجورة، بين صفوف الشعب المعزول، يترصدنا القَتَلَهْ.”
ولذا لم أسأل نفسي يوماً: مَن منهم سيكون القاتل؟ بل كنتً أقولْ: مَن منّا سيكون المقتولْ؟!
لم أكترث يوماً أن أكون المقتول، أعتقد أنّها تصلح لتكون مكملةً لكلمات “ممدوح عدوان” السابقة، حتماً ﻷن إمكانية السوريين تفوق المعقول، يقين ممزوجٌ بهال الانتظار خلف سور انتصارٍ نعزي أنفسنا باقتراب دنوه.