إن محاولات الاختباء خلف التهم الجاهزة والتعميمات المتكلسة، لا تعني في المحصلة سوى المزيد من استنزاف سورية وقتل السوريين. والإصرار على ذلك ليس إلا هروباً من حقيقة سيخضع لها الجميع يوماً وإلا فلن تبق سورية، فسورية القهر الاجتماعي والانفراد السياسي لن تعود، وكل محاولات القفز فوق هذه الحقيقة نوع من المشاركة في كتابة فصول جديدة من مأساة آن لها أن تنتهي.
والكل يعلم أن فرض حالة لا غالب ولا مغلوب سيكون هو الحل في النهاية، وأن الرهان على عامل الوقت والاستقواء بالعوامل الظرفية ليس إلا شراء للوهم على حساب سورية والسوريين، ومن هنا ينبغي على رجال المرحلة الذين أفرزتهم تفاعلات الثورة ومحطات بناء المعارضة أن يكونوا رجالات الوطن، وأن يأخذوا بعين الاعتبار متطلبات الخروج من عنق الزجاجة قبل أن يفقدوا وطناً يتآكل وهم يشهدون.
ولا شك في أن العوامل التي تقيد الحالة السورية معقدة بتعقد الوضع الإقليمي واختلال الحالة الدولية، لكن أبرزها عوامل سورية بحتة؛ فلا النظام ولا المعارضة قدما للشعب السوري وصفة للمستقبل، ولم يقدما له من السلوكيات والممارسات الميدانية ما يحمل على تصديقه والحماسة له.
السوريون أحوج ما يكونون إلى الرجالات الذين ينظرون إليهم كسوريين بمجموعهم، ويسعون مجتمعين لمستقبلهم كشعب في مجتمع يحضنهم جميعاً، في ظل مؤسسات تعمل لهم جميعاً بلا تمييز أو إقصاء؛ فأين هذا ممَّا يبديه النظام؟ وتقصر عنه المعارضة؟ وكلاهما ينظر إلى السياسة بعين واحدة.
فقد اهتم النظام، عبر تاريخه، بالسياسة الخارجية ودخلها من بابها العريض، وأهمل السياسة الداخلية حتى أدخلها في ضيق ما لبث أن انفجر ثورة ملتهبة، وهذه حاله فيما بعد الثورة؛ وكذلك المعارضة التي تركن بمعظمها إلى التحليل والاتصال السياسييْن ظناً منها أنها تمارس السياسة بكلِّيتها، والسياسة إن لم تكن سياسة بما للمدلول من معنى ولحساب الوطن فهي على حسابه.
ولا بد للنظام من أن يسلِّم بحقيقة أن انفراده بسورية وهمٌ لن يطاله، وأن حجم الآلام أكبر من أي قفز فوقها، وأن سورية جديدة ستولد من رحمها، ولا بد للمعارضة أن تأخذ بالحسبان أن النظام ليس رؤوسه ونافذيه، وأن جمهوره ليس طيفاً واحداً، وأن حاضنته تعاني وتتململ، وأنها ليست سواء فيما حملها على اتخاذ مواقفها، وأن أطيافها تراقب وتعي.
حري بمن يُخلص لسورية أنْ يدرك أنّ خلاص السوريين مرهون بالعمل وفقاً لهذه المعطيات، ولعل جانب المعارضة هو المعني الأول بإحداث خرق حقيقي لمصلحة سورية الوطن، تراه جماهير الشعب السوري بعين الاستبشار، ويؤخذ بعين الاعتبار في موازين السياسة الإقليمية والدولية.
فعلى من قالوا إنهم سُعاَة لأجل الحرية والكرامة ترجمة ذلك بشكل فعلي، ومن نافلة القول: إن التعددية الفكرية والسياسية من مفرزات الحرية، وإنه لا بد لها من تنظيم، ولا بد لها من قواعد ناظمة، وأدبيات وتقاليد تُبرز الحرص عليها وتعلي من شأنها.
وهنا نجد أن على المعارضة العمل عبر مؤسساتها على صياغة قوانين ونواظم لتأسيس الأحزاب والجمعيات، يتم بموجبها لمُّ شعث الساحة السياسية وضبط الفوضى الإعلامية، وفرز الكيانات الهلامية التي تفتت المجتمع السوري.
وهذا مدخل لتنمية الممارسة السياسية للمجتمع السوري والاعتناء بها، وإعطائه الفرصة لبناء قواه وحشد طاقاته بتكامل الداخل والخارج سعياً للمشترك الوطني، ومن ثم على مظلتها السياسية الرئيسة (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية) إنجاح تلك العملية واحترام مفرزاتها، وإرساء تقاليد في التواصل الجادّ مع القوى المدنية والاجتماعية والحركات السياسية الناشئة، لتنميتها وإشراكها في العملية السياسية.
وكذلك على الائتلاف التخطيط لتجديد بنيته وآليات عمله بناء على ثمار ذلك التواصل، والعمل بالتوازي على تبنّي رؤية مشتركة لمستقبل سورية، تترجم بإعلان وطني يعبر عن تطلعات تلك القوى، ويحدد مساحات نضالها المشترك للخروج بسورية من محنتها، وأسس بنائها كدولة تحترم الحرية وتصون الكرامة.
صحيح أن حالة الفراغ وحجم المصاب قد استنفر الهويات، وأشعل فيها الهواجس، وأنعش مطامح وألهب مطامع تتخذ من دغدغتها مبرراً وسلاحاً، لكن غالبية الشعب السوري ترفض ذلك، وكوامنه تنتظر ما يعينها على تجاوزه وتطويقه، وتتطلع إلى رجالاتها المبادرين بشجاعة لتعبيد المسار الوطني الذي يتسع للجميع، ويعيد للمنطقة أجواء التهدئة وعوامل الاستقرار.
وصحيح كذلك أن إدارة الأزمة بمعظمها ليست في أيدي السوريين اليوم، لكن إدارة الوقت لصالحهم ما تزال بأيديهم، وأنهم بحُسن إدارته سيرسمون نهايتها، وأنهم وحدهم القادرون على إدارة الانحياز إلى وطن طال أنينه.