عبد المجيد القرح |
“يا عمّ؛ هناكَ نحو عشرينَ جثةً مجهولةَ الهويَّةِ يمكنكَ الاطلاعُ عليها رُبَّما تجدُ ابنكَ بينهم، ذهبَ فترةً قصيرةً ثُم عادَ ليخبرنا بوجودِ ابنهِ بينَ الجُثثِ، كانتْ علاماتُ البُكاءِ ظاهرةً على الرَّجلِ، وهو في صدمةٍ قاهرةٍ كاسرةٍ، حريقُ قلبِه ظهرَ في عينيه وهو يقولُ: وجدتُ فلذةَ كبدي لكنْ لم أجدْ قدميهِ.. أينَ قدما ابني؟”.
يكاد المشهد أن يكون تراجيديًا إلا أنها قصة حقيقة براويتها وأشخاصها، وهي إحدى القصص المؤلمة التي رواها (محمد السلطان) في كتابه (ندبات) الذي نشر في دار نشرٍ مصرية منذ أقل من سنة، وسيتم توزيعه في البلدان العربية.
(محمد السلطان) ٢٥ عامًا أبو عدنان، مهجر قسرًا من ريف إدلب الجنوبي إلى مخيّمات الشّمال منذ بدء الحملة على (خان شيخون)، تخرج من معهد للعلاج الفيزيائي من جامعة (الحياة)، وكتب كتاب (ندبات)، وهو عبارة عن توثيق 100 قصة لسوريين تهشّموا بنار الحرب.
الهدف من الكتاب يوضحه (سلطان) بقوله: “كان الهدف من الكتاب توثيق الأحداث”. وعن محتوى الكتاب وآلية تأليفه يقول: “الكتاب عبارة عن مجموعة قصصية قصيرة جدًا يحكي أصعب قصة عاشها كل شخص منهم خلال الحرب”.
وأوضح (السلطان) أن القصص تنوعت بين قصص لمدنيين وإعلاميين وأصحاب الخوذ البيضاء، ومعتقلين سابقين، وهو موزّع على 230 صفحة معظم تلك القصص المأساوية دوّنت بطريقة أدبية.
وقد سمَّى الكتاب (ندبات) وألحقه بجملة “حكايات من الوجع السوري”.
“لينتهي بي القدرُ إلى أمرينِ قاتلين لا ثالثَ لهما، إمَّا أن أتركَ ولدي الصغيرَ في وسْطِ الصحراءِ لمصيرهِ، أو أجلسَ مع أولادي ونُخالفَ قطيعَ البشرِ الهاربةِ وأموتَ معهم في عرضِ الصحراءِ، قررتُ أن أمنحَ الحياةَ لأولادي على حسابِ أخيهم الصغيرِ وأتركهُ وحيدًا، وأتابعَ المسيرَ”.
(محمد شاوردي) روى المشهد السابق عن إحدى النساء اللواتي التقاهنّ أثناء عمله في المجال الإنساني، وأعاد البكاء مرة أخرى حين قرأ القصة كأنّه يسمعها للمرة الأولى، يقول خلال حديثه لحبر: “اللغة الأدبية تركت إضافة إيجابية للقصة، لم تخرج عن إطارها رغم أنّه من الصعب الوصول لشعور الأم المكلومة”.
ويتابع بقوله: “هذه القصص كنا نحتفظ فيها لأنفسنا، ربّما تحدّثنا بها في مجلس أو اثنين لكنّ مصيرها أن تذهب طيّ النسيان والكتمان”، ونوّه إلى مدى أهمّية توثيق هذه القصص التي لم تتوجه إليها الأنظار، وقال: “يجب أن يعرف العالم مدى الجريمة التي حدثت ومدى المشكلة”.
ويرى (شاوردي) أنّ الكتاب “من أهمّ المشاريع التي قُدّمت في الثورة، وقرأته كاملاً ويستحق المنافسة على جوائز عالمية” وأردف قائلاً: “القصص جميلة من حيث المضمون، مؤلمة من حيث المحتوى” ويؤكد أهميته وضرورة إلقاء الضّوء على المسبّب الأساسي لتلك المآسي: “هو قصّة شعب وليس من تأليف شخص”.
بدأ (السلطان) كتابه بإهداء وجَّهه للسوريين كلّهم:
“إلى الشعبِ السوريّ، أبناءَ العشرِ سنواتِ حربٍ، ومن تؤلمُه ندباتُها..
إلى الخوذِ البيضاءِ النَّاصعةِ قلوبهم.. فرحةُ كلِّ ثكلى، بسمةُ كلِّ أمٍّ، أملُ كلِّ مظلومٍ.
إلى المعتقلينَ والمعتقلاتِ، شرخُ الرُّوحِ، جرحُ القلبِ، النَّخزةُ القاتلةُ، الحلمُ المفقودُ والأملُ المنتظرُ.”
وينهي (السلطان) كتابه بالقول:
“لأن حربنا تركت في كل بيت ندبة، وفي كل مدينة بصمة، وفي كل منطقة بؤرة تدك على شراسة المعركة، نسعى جاهدين لتوثيق الحدث والألم بتفاصيله، بين حجم المصاب وكميّة القهر، ندوّن هموم الأمة السورية، نؤرخ الذّكرى المريرة فهناك الكثير من القصص والآلام المكبوتة التي لا تروى، هناك آلاف القصص التي اندثرت مع أصحابها”.