بقلم جاد الحق
في ظلِّ حلقة الصمود الجديدة التي تمرُّ بها حلب الشهداء، تطل علينا ذكرى أليمة جمعت بين حلب ومدينة مسلمة جميلة هي سراييفو عاصمة جمهورية البوسنة.
ما جمع بين هاتين الأختين هو عامل الحصار، فسراييفو تعرضت لحصار استمر 1400 يوم من قبل الصرب، وذلك في تسعينيات القرن الماضي، حين شنَّ الصرب حرب إبادة وتطهير عرقي ضد مسلمي البوسنة، وحوصرت سراييفو عاصمة البوسنة من قبل الصرب الذين احتلوا المرتفعات الجبلية المحيطة بالمدينة، تماما كما حوصرت حلب اليوم من قبل ميليشيات الأسد بعد احتلالها الملاح ورصدها طريق الكاستيلو -طبعا حافظ الأسد كان الداعم الأساسي للصربي الحاقد سلوبودان ميلوزوفيتش قائد الصرب –
ما كان سببا في نجاة سراييفو بالأمس، قد يكون سببا لنجاة حلب في ظل الظروف التي تعيشها، وهو حفر نفق يصل المدينة المحاصرة بالخارج.
كانت فكرة حفر النفق للجنرال البوسني راشد، الذي استغرق معه العبور من خارج سراييفو لداخلها حوالي ستة أيام، استطاع فيها أن ينجو من قناصات الصرب و قذائفهم، و كان عبوره بالقرب من مطار سراييفو الذي تحتله الأمم المتحدة، لتمنع دخول المساعدات للمسلمين المحاصرين في سراييفو كعادة الأمم المتحدة دائما، و حين دخل المدينة سأل عن أفضل مهندس معماري فيها، فدلوه على المهندس براكوفيتش نجاد، فالتقى به و سأله عن إمكانية حفر نفق تحت مدرج المطار، فأجاب المهندس صعب لكنه غير مستحيل، و كانت هذه العبارة مفتاح للبدء بتنفيذ الخطة، و فعلا تمَّ اللقاء بالرئيس البطل علي عزت بيجوفيتش و اطلاعه على الخطة التي تحمس لها، و أصدر أوامره بالبدء بالعمل بسرية تامة و تأمين و تسهيل كل ما يتطلب لإنجاز النفق.
تمت دراسة الأمر هندسيا و لوجستيا من أواخر عام 1992 حتى البدء الفعلي بالتنفيذ في آذار عام 1993، كانت الخطة تقتضي بحفر نفق من نقطتين و الالتقاء في المنتصف، الأولى دوبرينيا على أطراف سراييفو المحاصرة، و الثانية بوتمير خارجها، و المسافة بينهما حوالي 800 متر، و كانت الصعوبات كبيرة، منها الخوف من اكتشاف الصرب أو الأمم المتحدة لأعمال الحفر و استهدافهم للمنطقة، و ترحيل الأتربة الناتجة عن عملية الحفر دون إثارة انتباه الصرب و الأمم المتحدة، و المياه الجوفية التي تهدد بهدم النفق، و الحصول على مواد للبناء خاصة الخشب، و التي تمَّ جمعها من منازل أهل سراييفو عبر تبرع أهلها بها، و أيضا نقص الاوكسجين في النفق، فكان الشاب ابن العشرين سنة لا يستطيع الحفر إلا خمس دقائق فيسقط مغشيا عليه، و يتمُّ استبداله بآخر، و هكذا استمر الأبطال بحفر النفق يتجاذبهم اليأس و الأمل و هم للأمل أقرب، حتى تمكنوا من إنهائه في يوم 30 تموز عام 1993، في الوقت الذي كان فيه وفد البوسنة في جنيف يفاوض الصرب من موقف ضعف للوصول إلى حلٍّ ينهي النزاع، و عند الانتهاء من النفق، دخلت المدينة شحنة أسلحة و ذخائر بوزن 12 طن، ممَّا أدَّى إلى تعزيز الوضع العسكري داخلها، و رفع الروح المعنوية للبوسنيين، و قلب طاولة المفاوضات على رأس الصرب، و فعلا كان هذا النفق طريقا للنصر، حفره البوسنيون الأبطال بدموعهم و دمائهم و عرقهم.
اليوم بحلب الصمود نواجه تقريبا الوضع نفسه، ونستطيع الاستفادة من الحل نفسه، فقصة نفق سراييفو توحي لنا بالكثير من العبر والآمال منها:
1) أعظم أسباب النصر قد تكون فكرة بسيطة.
2) ليس هنالك مستحيل، لكن هناك صعب، يتحول بالأمل والإعداد والتنفيذ والصبر إلى واقع.
3) يجب على القيادات أن تتحمل مسؤوليتها وتبذل كلَّ ما بوسعها للتخفيف من آلام المحاصرين.
4) لا تنتظر مساعدة من أحد، فالأمم المتحدة التي علَّق عليها البوسنيون الآمال كانت شريكا مع الصرب في قتلهم وحصارهم.
5) حفر الأنفاق والخنادق والتدشيم من أهم عوامل كسر الحصار والنصر، وتعزيز الموقف السياسي الدولي للثورة، ولنا في خندق النبي صلى الله عليه وسلم، ثم في نفق سراييفو، وأنفاق غزَّة أسوة حسنة.
لا بدَّ لنا من الاستفادة من تجارب صمود الشعوب، فالأحداث تتشابه، لكن يختلف الأشخاص والزمان والمكان، وما تمرُّ به حلب ليس إلا آخر ورقة يستعملها النظام الذي أصابه صمود أهلها بالإحباط والإفلاس، خاصة أنهم تخطوا فترات أصعب كفترة البراميل لا أعادها الله، وبإذن الله هذه الفترة ستمرُّ أيضا، وستخرج حلب منها منتصرة شامخة، وتكون قد حررت ما بقي محتلا منها، وتوحَّد شطراها تحت راية الأحرار.