أ. أبو عبادة الحلبي
لكل إنسان دوره في هذه الحياة، والإنسان العاقل هو من يقدِّر الأمور حقَّ قدرها، ويدرس الظروف المحيطة به، ويفكر بشكل واقعي، ويقلّب المسألة على وجوهها، ثمَّ يتخذ قراره، أمَّا الأحمق فإنَّه يركب رأسه، ويتخذ الغرور مركباً له، فالأخير سيغرق زورقه لا محالة، والأمور لا تعالج دائماً بالحزم والقوة، بل في أغلب الأحيان تتطلب الحكمة والمرونة، فالمرونة تجعلك كالخيزران تنحني للعواصف لكنَّك لا تنكسر، إذ لا يمكن للمرء أن يسبح معاكساً للتيار في يوم عاصف.
إنَّ الإنسان الحكيم حين يشعر أنَّ دوره قد أشرف على نهايته، فعليه أن ينسحب ويسلم موقعه إلى من هو أجدر منه وأكفأ، لا أن يعاند فيغرق ويغرق من معه، ويجلب الدمار لأهله وبلده، هذه الحقيقة أدركها أمير إشبيلية (المعتمد بن عباد) فحين أحاطت جيوش الأذفونش بإمارته، وشعر بالخطر الذي يحيط به وأدرك عجزه عن المقاومة، جمع وزراءه وخاصته، واستشارهم وعرض عليهم أن يطلب العون والمدد من ابن تاشفين (أمير المرابطين في المغرب العربي) فردَّ عليه أحد الحاضرين قائلاً له: أنت كالمستجير بالرمضاء بالنار.
فأجابه المعتمد إجابة ذهبت مع الأيام وخلدها الدهر: (لئن أكون راعياً للغنم عند ابن تاشفين خير من أكون راعياً للخنزير عند الأذفونش) هكذا يفكرُ الرجال الذين يحبون أوطانهم، ويقدمون مصالح بلادهم على مصالحهم الشخصية، لقد أدرك المعتمد بن عباد أنَّ دوره قد انتهى، ولكنَّه لم يهن عليه أن تكون بلاده لقمة سهلة للغزاة الطامعين الكافرين، لم يهن عليه أن تتحول المساجد إلى كنائس، بل أسرع واستعان بالموحدين من أبناء دينه وعقيدته، فأسرعوا لنجدته وخاضوا معاً معركة (الزلاقة) وردُّوا الأذفونش عن حدود بلادهم وامتد الحكم العربي بعدها أربع مئة عام بعد أن أوشك على السقوط.
أمَّا العملاء من الحكام، فإنَّهم يفضلون تدمير بلادهم حين تهتز عروشهم، مستعينين بالأجانب والمرتزقة الذين لا يتركون حجراً على حجر، لكنَّهم لا يعرفون أنَّهم الخاسرون في النهاية، وأنَّ مصيرهم القتل والسجن، فإرادة الشعب من إرادة الله لا تقهر مهما طالت أيام البغي.
وحين اشتعلت الثورة في درعا دون تخطيط مسبق، بل جاءت عفوية امتثالا لقضاء الله وقدره، لم يعالجها ( بشار الأسد ) بحكمة، بل هدَّد وتوعدَ وظنَّ أنَّ القوة هي السبيل الوحيد لمعالجة الثائرين، كما فعل أبوه من قبل بمدينة حماه 1982 لكن هيهات، لقد تغير الزمن، وفاته أنَّ العنف يولد العنف، وأنَّ الدائرة ستدور عليهم، وأنَّ بقعة الدم ستكبر وتتسع وتتواصل ولا تتوقف، وهنا بان عجزه، وظهرت سوءته وأشرف على السقوط، فاستعان بميليشيات حزب الله، ثمَّ بالحرس الثوري الإيراني الذي هبّ للحفاظ على الطاغية الذي أطلق يدهم في سوريا، وفتح لهم الباب على مصرعيه، ورغم ذلك فقد فشلوا في إخضاع الأحرار، فتدخل الروس بطائراتهم وعتادهم، فانخرطوا في المستنقع السوري، وهم يظنون أنَّ الأمر نزهة، وأنَّهم سيسحقون الثورة في أيام معدودات، ولكن خاب فألهم، وتوالت تصريحاتهم التي تعبر عن حالتهم النفسية، فها هو مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة ( تيفالي شوركين ) يقول: “إذا أصرّ الأسد على الاستمرار في الحرب حتَّى النصر فإنّ الصراع السوري سيستمر طويلاً، وهذا أمر مرعب” فهل أدركت روسيا أنَّ القضاء على إرادة الشعب السوري وثورته أمر مستحيل؟
وهل رأت أن ليس من مصلحتها أن تنخرط في صراع طويل الأجل يستنزف طاقاتها واقتصادها وجنودها ويجعل كرامتها في الوحل وجبروتها تحت أقدام المجاهدين.
ثمَّ تبين أنَّ أهداف روسيا لا تتفق تماماً ولا تتطابق مع أهداف بشار الأسد، فبشار يحاول الحفاظ على ملكه، بينما هي جاءت للحفاظ على مصالحها في المنطقة وليس دفاعاً عن بشار الأسد، ومن يظنُّ غير ذلك فإنَّه واهم، إنَّ المستعمرين لا ينظرون إلى الذين يساعدونهم على احتلال بلادهم نظرة احترام، بل يحتقرونهم وسيستغلونهم حتى النهاية، ثمَّ يرمونهم في القمامة.
لقد تحول بشار الأسد في أعين الغزاة إلى عامل مأجور ينفذ لهم ما يأمرونه، وحين تجاوز الخطوط المرسومة له، وجّهت له القيادة الروسية رسالة تأديبية تحذره من ارتكاب المخالفات مرة أخرى.
هذا جزاء ما جنت يداه، إنّ من يساعد المحتلين على الدخول إلى بلاده سيفقد سلطانه ولن يحترموه، وسيكون سخريتهم، يتندرون عليه في سهراتهم واجتماعاتهم وصحفهم، كما فعلت صحيفة (كومير سان ت)
القريبة من الكرملين حين وصفت بشار الأسد بذيل الكلب يصعب تقويمه، وحين احتجَّ عليهم ردّوا عليه: (نحن نحترم الكلب في بلادنا أكثر من رئيس يقصف شعبه).
وهذا استخفاف واحتقار بمن فرّط ببلاده، ولكن هل سنسمع بعد هذا الكلام كلاماً آخر؟ أم أنَّ المشهد الأخير من المسرحية قد اقترب؟