يُخيّل إلينا أننا نمارس التفكير فيما نهتم به أو نختاره، نحاول أن نجد حلولاً للقضايا التي تؤرقنا والتي قمنا بمحض إراداتنا باختيارها. ونتعِب أنفسنا ونحن نخترع النظريات ونطلق الآراء ونبتكر الطرق التي توصلنا إلى ما نظن أننا نريده.
أعتقد أن حرية التفكير أمرٌ قد ولَّى زمانه منذ أمدّ، وقلة فقط أولئك الذين يستطيعون ممارسة التفكير الحر بطريقة مثلى، فلا القضايا التي تشغلنا نحن من اختارها، ولا أساليب التفكير التي نتبعها نحن من قام ببنائها، ولا شخصياتنا أصلاً هي شخصيات حرّة تماماً.
إننا مزيج من الماضي والمستقبل، أسهمت المعرفة التي امتلكناها بطريقة معينة وطموحاتنا القادمة في تشكيل شخصيتنا وطرق تفكيرنا، ولو تلقينا المعرفة من طرق أخرى وغيرنا نظرتنا للمستقبل لكانت تغيرت اهتماماتنا وطرق تفكيرنا، وحتى طرق علاجنا للأمور.
قد لا يفكر ابن الشرق بالمجاعات كما يفكر فيها ابن الغرب، وقد يختلفان عن الإفريقي في ذلك، إن واقع الحياة وتأثير مصادر المعرفة والتأثير الكبير للإعلام يسيطر على طرق تفكيرنا وعلى اختيار القضايا التي نريد أن نهتم بها، ومحاولة الوصول إلى الانفصال عن هذه المؤثرات هي محاولة خلق قطيعة مع الواقع والمحيط، لأنها مؤثرات جمعيّة، وغالباً من يمتلكون تفكيراً حراً بالمطلق لا يمتلكون تأثيراً ذا قيمة على الناس في محيطهم، لأنهم يفكرون خارج دوائر اهتمام الناس وقناعاتهم وأرضياتهم المعرفية المشتركة.
إن دوامة البحث عن الحرية بهذه الطريقة، هو محاولة لنقض وجودها عندما نحترف ابتكار دوائر التقييد، نحن أحرار بالتأكيد، لكننا لم نخلق أو نوجد بالفراغ، لكي نبحث عن الحرية في الفراغ، وعندما نريد ذلك بإمكاننا أن نكون بعض العابثين بدعوى الاختلاف والحرية.
إن ما يدور حولنا هي التحديات التي خلقنا لنواجهها، وصناعة الحرية الحقيقة تكون بالتغلب على هذه التحديات، وليس بمغادرتها بدعوى الحرية، إن المواجهة هي التي تصنع الحرية، وإن حرية التفكير تزداد كلما تنوعت مصادر المعرفة واختار العقل ما يناسبه منها، ولا يمكن أن تكون بعيداً عن كل المصادر، لأنها ستكون بعيدة عن منطق التفكير، فلا تفكير بدون معرفة، ولا حرية بدون تحديات نواجهها ونحدد موقفنا منها.
المدير العام | أحمد وديع العبسي