ولّدت الثورة السورية منذ انطلاقتها جملة تفاعلات محلية وإقليمية ودولية، ما لبثت تشتد في عمقها واتساعها إلى أن بلغت درجةً ما كان يتوقعها حتى أهل الثورة أنفسهم.
الحديث اليوم عن بقاء بشار هو بروباغندا للاستهلاك المحلي في حاضنته المنهَكة، ولاختبار استجابات الفاعلين في الملف السوري أكثر منه قراءة موضوعية لواقع تغيّر كثيراً خلال سبع سنوات.
إنَّ نظرةً موضوعيةً لواقع الثورة السورية تكشف لنا عظم التحديات والمخاطر التي تواجهها، وفي الوقت نفسه تظهر مساحة لا يُستهان بها من الفرص ونقاط القوة إن أحسنّا الاستفادة منها يمكن أن تغيّر المعادلات وتسرّع خلاص شعبنا من قبضة الإجرام الأسدية.
برغم ما يسمى اتفاقيات خفض التصعيد ما زال التهديد العسكري من النظام وحلفائه قائماً، وتناقض مصالح الدول الداعمة للثورة وخصوصاً بعد أزمة الخليج يشكل ثقباً أسودَ يبتلع الكثير من فرص التنسيق بين هذه الدول فيما يخدم مصلحة السوريين، واستغلال النظام لتعب الحاضنة الثورية يجعلها في بعض المناطق عرضة للاستسلام باسم المصالحات، ومشروع البي واي دي الذي يقدم الأحلام القومية على أولوية الخلاص من حكم الأسد، ومشروعي داعش والنصرة كلها خناجر في خاصرة الثورة تستنزفها وتعطي النظام وغيره المبررات لتحويل سورية إلى ساحة صراع بين الدول.
ممَّا يفتت في عضد الثورة أيضاً استمرار تشرذمها على المستويين العسكري والسياسي، وتعب حاضنتها الشعبية واستنزافها مادياً ومعنوياً، واهتزاز ثقة الحاضنة بالفصائل سيما بعد اقتتال الغوطة، وبسبب تغول بعض الفصائل على الحياة المدنية واستنساخها لأساليب النظام التعسفية في التعامل مع الناس، يضاف إلى ذلك انحسار المناطق الخارجة عن سيطرة النظام لتنحصر في الجنوب والشمال وفي بقع صغيرة في الوسط وحول دمشق بعد أن كانت تغطي مساحةً واسعةً من البلاد.
بالمقابل ما زالت الثورة في بعدها الشعبي قائمة وقادرة على الاستمرار والتكيف، يتجلى ذلك في استمرار المظاهرات والفعاليات الثورية في الداخل والخارج، وما زال المزاج العام في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام وفي مخيمات اللجوء بعيداً عن إعلان الاستسلام والعودة إلى حضن النظام، وما زال عشرات الألوف المقاتلين المتمرسين بالقتال مصرين على التخلص من الأسد الذي دمَّر بيوتهم وشردهم وقتل أهاليهم، وما زالت هناك مناطق خارجة عن سيطرة النظام بعد أن فشل في اقتحامها رغم مئات المحاولات.
وفي الجانب المدني أفرزت الثورة الكثير من الكوادر والخبرات والمؤسسات لم تكن موجودة قبل سبع سنوات وهي تلبي اليوم جزءاً مهماً من حاجات الناس في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام سواء عبر المجالس المحلية أو عبر منظمات المجتمع المدني باختصاصاتها المتنوعة الإغاثية والطبية والتعليمية والإعلامية والحقوقية وغير ذلك.
إضافةً إلى نقاط القوة السابقة تتمثل فرص الثورة في بروز رغبة إقليمية ودولية متزايدة في حلِّ الصراع بعد أن بلغ مداه واتسعت تأثيراته وأصبح يهدد مصالح الدول المعنية بالملف السوري، فالأتراك لا يريدون كياناً كردياً على حدودهم الجنوبية، والأمريكيون والأوربيون لا يريدون أن تكون سورية مفرخة للإرهاب، والروس لا يريدون التورط عسكرياً إلى أمد مفتوح، وإسرائيل لا تريد نفوذاً إيرانياً على حدودها الشمالية، ودول الخليج أيضاً لا تريد لإيران أن تنتصر في سورية. لهذه الأسباب مجتمعة أصبحت هناك مصلحة إقليمية ودولية في الدفع باتجاه حل ما.
أما حاضنة النظام فقد تعبت واستُنزفت وهم في النهاية بشرٌ ولن يستمروا بتقديم الضحايا دون أن يسألوا لماذا وإلى أين.
من فرص الثورة أيضاً تراكم ملف حقوقي قوي يتضمن الجرائم التي ارتكبها النظام (تصفية المعتقلين في السجون، استخدام الكيماوي، الإخفاء القسري، التهجير القسري) وكلها جرائم موثقة من جهات حقوقية ودولية ذات مصداقية ويمكن ملاحقة النظام بها.
إذا فكرنا كيف نستفيد من نقاط قوة الثورة وفرصها في تدارك نقاط ضعفها وما تواجهه من مخاطر، نجد أنَّ علينا العمل بالتوازي على ثلاثة محاور:
– المحور السياسي
- توحيد الموقف من مسألة القبول ببشار في المرحلة الانتقالية، وإيصال رسالة واحدة وباستمرار لكل المعنيين بالملف السوري أنَّ بشار لا يمكن أن يكون جزءاً من الحل.
- إعطاء فرصة أخيرة محددة بسقف زمني لإصلاح الائتلاف كونه حائزاً على شرعية نسبية دولية وداخلية على أن يكون الإصلاح وفق معايير تضمن تمثيلاً واقعياً للفصائل والمجالس المحلية، وفي حال عدم الإصلاح تشكيل جسم سياسي بديل تتوافق عليه الفصائل العسكرية والمجالس المحلية ويستفيد من الشخصيات الوطنية التي يمكن أن يجتمع عليها السوريون.
- دعم الحكومة المؤقتة، لأنَّها معنية مباشرة بتلبية حاجات الناس وإدارة المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.
- توقف الفصائل عن التواصل الفردي مع الروس، وعقد الاتفاقيات المنفصلة معهم والانتظام في وفد واحد ينهي ازدواج المسارين (جنيف والاستانة) وتلتزم أطرافه السياسية والعسكرية بمحددات وطنية عابرة للفصائل تعطي الأولوية لمصلحة الشعب السوري.
- تفعيل الملف المتعلق بجرائم الحرب التي ارتكبها النظام حقوقياً وشعبياً وإعلامياً.
- تعزيز التواصل بين السياسيين الذي يمثلون الثورة وشباب الثورة من خلال لقاءات دورية يتم اطلاع الشباب فيها على المستجدات والتحديات والخيارات، ممَّا يساهم في صنع السوري المهتم بالسياسة ويطلع السياسيين على ما يدور في أذهان الشباب ويزيد الثقة بين الطرفين ويخفف قضية التخوين وسوء الفهم.
– المحور العسكري
- يجب أن يكون على رأس أولوياتنا تطويق الخلاف في الغوطة ونزع فتيل الانفجار (من خلال الدول الداعمة – العلماء – العمل الشعبي والضغط المدني) هذا الخلاف قد ينفجر في أي لحظة وتكون فرصة النظام للانقضاض على الغوطة وحصول انهيارات مفاجئة بسبب انعدام الثقة بين الفصائل كما حدث في حلب.
- الحفاظ على المناطق التي ما زالت خارج سيطرة النظام، إذ يجب ألا نطمئِن إلى اتفاقيات خفض التصعيد، فالنظام يمكن أن يخرق الاتفاقيات ويقضم من هذه المناطق بحجة أو بدون حجة، لذا يجب أن تكون فترة خفض التصعيد فترة تدريب وتجنيد، وبناء أنفاق وخطوط إمداد، وتحصين لمنع النظام من إحراز أي تقدم على خطوط التماس.
- التفكير بخيارات عسكرية غير اكتساب الأراضي، خيارات لا يتبناها أحد، تؤلم النظام وتستنزفه وتوجه له رسالةً أنَّ المقاومة لم تنتهِ، وأنَّ عليه أن يمشي باتجاه الحل السياسي، فطبيعة النظام أنَّه كلما شعر أنَّ الطرف الآخر على وشك الاستسلام وإلقاء السلاح ابتعد أكثر عن فكرة الحل السياسي والعكس صحيح.
- ابتعاد الفصائل عن التدخل في العمل المدني، وتفويض هذا الأمر للمجالس المحلية والمنظمات المدنية.
– المحور المدني
- تعزيز تجربة الادارة المحلية من خلال تعزيز الإدارة الرشيدة واستقطاب الكفاءات، والتعاطي بكفاءة مع ملف عودة اللاجئين وتلبية مطالبهم الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية.
- تفعيل الحراك المدني والعمل الإعلامي (في داخل سورية و خارجها) لبعث روح الثورة الأولى، وتذكير حاضنة الثورة والعالم بأنَّها ثورة شعب يتوق إلى الحرية والكرامة ضد نظام مستبد يخرق كل المواثيق الدولية.
في الختام، الثورات لا تزيدها العقبات إلا عنفواناً، ومن حق مئات ألوف الشهداء والمعتقلين علينا أن نُبقي شعلة الأمل متقدةً في قلوبنا حتى نطرد ظلام الاستبداد من بلادنا مرةً واحدةً وإلى الأبد.
12-9-2017