محمد تركي الربيعو |
قبل ثلاثة عقود من الآن، كان المؤرخ روي متحدة المتخصّص في تاريخ البويهيين في جامعة هارفرد، قد عكف على كتابة السنوات العشر الأولى من تاريخ الثورة في إيران، بيد أنّ هذا الأكاديمي، وخِلافاً للسائد، لم يكتب عن رحلته البحثية الجديدة بلغةٍ أكاديميةٍ تقليديةٍ، فقد وجدَ أن تجربة قدوم الإمام وعالم الأساطير التي رافقته تتطلّب ربما خطةً كتابيةً أخرى، تمزج بين الجانب الروائي وعالم الخيال، والنظريات التاريخية. لم تكن هذه السنوات مجرّد انقلابٍ عسكريٍ، أو تبديل حاكمٍ بآخر، بل مثلّت انقلاباً حاداً في التاريخِ الإيراني؛ فبدلاً من أن يغدو المهندسون، الذين شكّلوا في فترة الستينيات والسبعينيات أساسَ المشروع الوطني/القومي، وفق ما وصلت إليه السوسيولوجية الفرنسية اليزابيث لونغنيس، في قراءتها لتاريخ المهن في المشرق العربي والشرق الأوسط، جاء الخميني ليفرض عليهم تبديل بذلاتهم الأوروبية بلباس آخر؛ بيد أنّ هذا الإحياء للإسلام، كما ردّد مؤيدو الثورة، لم يعنِ فحسب تغيراً في لباس الأمّة، بل أيضاً في قادتها. فبدلاً من الاعتماد على هؤلاء التكنوقراط، إذ بعددٍ من الملالي يتصَدّرون المشهدَ العام. ولذلك لم يجد متحدة من سبيلٍ لنقل روح ما حدث، سوى اللجوء لأسلوبٍ آخر من الكتابة، اذ تتبّع كتابه «بردة النبي» حياة علي هاشمي، وهو شابٌ من مدينة قم، كان رجل دينٍ (ملّا) أثناء اندلاع الثورَة وبعدها بسنوات. سيتيحُ لنا هذا الأسلوب في الكتابة العيشَ في تجربةٍ روائيةٍ حول العقدِ الأولِ من هذه الثورة وانكساراتها، والتعرّف على أسلوبٍ جديدٍ في الكتابة الأكاديمية حول إيران، يمزجُ بين العام والخاص والتحوّلات التي عاشها الإيرانيون، من خلال حيوات الناس العاديين.
أما بهروز قمري، وهو أكاديمي وعالم اجتماع في جامعة برنستن، فيحاول في مذكّراته «قوافل الإعدام» المترجمة حديثاً للعربية عن دار الساقي، اتّباع الأسلوب ذاته تقريباً في الكتابة، إذ يحاول رسم صورة عن الثورة الإيرانية ومآلاتها، من خلال ذكريات أقاربه وأصدقائه عن إيران قبل وبعد دخوله سجون الخميني.
يوم القيامة الإيراني:
كانت الثورةُ قد اندلعت. بدت له ولغيره بمثابة يوم القيامة؛ جموعٌ تسير لاستقبال الفقيه الكبير. إلّا أنّ هذا اليوم سيتحوّل بعد عدّة سنوات إلى جحيمٍ كبيرٍ، لا مكان فيه للعدل الذي يحلمُ به المؤمنون بالثورة، أو يتوقون له، بل تحوّل إلى مكانٍ لمحاسبة أعداء الله وجنوده.
يرسمُ لنا قمري الشاب في بداية سردِه للأحداث، صورة إيران قبل الثورة، من خلال حيوات أناس عاديين. كان خالُه الأسطى حسين، معروفاً بصناعة أحذيةٍ مريحةٍ للأمريكيين القادمين إلى جنوب البلاد للعمل في شركات النفط. كان يُتقن الإنكليزيةَ، أو بالأحرى بضع كلمات أو أرقام تتعلّق بقياس القدم. وفي أوقات فراغه يستمتعُ بالصوتِ الغامض للمغنية المصرية الأسطورية أم كلثوم، رغم أنه لم يكن يدرك معاني الكلمات. ومع عودته من الجنوب الإيراني إلى طهران، كانت الثورة قد أغلقت الباب على الملكية، ومعها عمّت الاحتفالات والمتعة والإحساس العميق بالرعب والقوة الكبيرة للجماهير والفراغ الغامض للنظام القديم. وعلى الرغم من أن خاله، كما يذكر قمري، قد احتفل في البداية بها، بيد أنه سرعان ما أخذ يشعر بزوال فترةِ الانفتاح على البلاد من خلال مهنته في صنعِ الأحذية. فقد تحوّلت أحذيةُ الرجال محليّة الصنع إلى أحذية تُشتَرى لمرةٍ واحدةٍ في الحياة. وواحد بعد آخر، كانت مخازن الأحذية الأوروبية تغلقُ أبوابها، ليموت لاحقاً قهراً بسبب خسارته مهنته.
كبر الفتى في طهران بسرعة، قبل أن تدفعه العقليّة السائدة آنذاك حول المهن إلى أروقة كليّة هندسة النسيج، إلّا أنّ صديقنا (خلافاً لأهله) لم يختر هذه المهنة لكونها مثّلت آنذاك مهنة أبطال المشروع الوطني، بل لأنّه كان قد قرأ في كتابٍ من كتبِ الماركسية أنّ عمّال النسيج والملابس تحديداً قد تزعّموا كفاح الطبقةِ العاملة من مومباي إلى مانشستر، مروراً بسان بطرسبرغ، وشيكاغو. لذلك فكّر أنّه إذا أصبح مهندسَ نسيج، فإنه سيخدم قضايا العمال بشكلٍ أفضل. لا ينسى في سياق حديثه عن نشاط بعض الطلاب اليساريين أن يتذكّر بعض الخيبات التي أصيبوا بها أحياناً، فقد كان حديثهم مع العمّال عن تحرير الإنسانية جمعاء، لا يلقى صدى واسعاً أثناء الاجتماعات، وكانت هذه النتيجة محلّ خلاف بين الرفاق. بدا البعض منهم مُستنكراً عدمَ الاهتمام هذا، إلّا أنّ صديقه سيُعلِمه بأنّ أفكار لينين وماركس لا تُطعِم عائلات هؤلاء العمال «فالمعدة الخاوية لا تبحث عن الذات»، سيدرك قمري يومها «أنهم كانوا بورجوازيين في الأصل» في خطابِهم للجماهير.
سجن إيفين
كان الخوفُ خلال فترة نشاطِه اليساري من أن يُعتقل من السافاك الإيراني، ولم يكن يعلمُ أنّ الثورة التي ستأتي ستغيّر حياته وبأسلوبٍ لم يتوقعه. لن يطول الأمرُ بالشاب، ففي عام 1981 سيُعتقل في سجون الخميني. لم يكن يصدِّق ما يحدث، سجن إيفين، السجن الفظيع الذي احتوى على آلاف الأجسادِ المعذّبة في زمن الشاه، لم يُغلق، ولم يتحوّل إلى متحف، كما وعد الخمينيون، بل أصبح هو أحد نزلائه. كانت النجاةُ من عالم العتمة هذا يتطلّبُ ما هو أكثر من التغلّب على مخاوفٍ أو تجاوز ألم التعذيب الذي لا يُحتمل. كان الاهتمامُ بأدقّ التفاصيل الصغيرة، والتافهة في أحيانٍ عديدة، محل ترحيبٍ من قبله وقبل باقي المسجونين. هنا لن يحدّثنا قمري عمّا عاشه من لحظات تعذيبٍ، وهو ما عوّدتنا عليه غالبُ مذكّرات السجناء، بل سيسعى من خلال سرده لتلك اليوميات إلى رصدِ عوالم إيران الجديدة التي كانت تتشكّلُ داخل السجون. فالسجنُ لم يعد في التاريخ الحديث لإيران ودول الشرق الأوسط مجرّد مكانٍ لقطاّع الطُرق واللصوص، بل بات بمثابة مختبرٍ لصناعة «الأمّة المُطيعة»، إذ تجري فيه إعادةُ تقويم سلوك الأشخاص المشكوكِ بولائهم. سنعثرُ هنا على قِصص العشرات من الأشخاص العاديين الذين قادتهم ظروفُ الحياة وتقلّبات السنوات القليلة إلى السجونِ. فرهارد، أرجنغ، الشاعر، عناوينُ فصولٍ تتحدّث عن أشخاصٍ لم تُكتب قِصصُهم في سجلّاتِ التاريخ الإيراني الرسمي، لكنهم ضحايا، أو أبطال بلا تاريخ، قادَتهم الأوضاع في فترة ما بعد 1979 إلى خشبةِ الإعدامِ.
فرقة غنائية في السجن
سنتعرّفُ من خلال هذه اليوميات على تاريخٍ آخرٍ للذهاب للحمّام، فهذه الرحلة الضائعة في حياتنا عادة، ستغدو في حياة بهروز وباقي أصدقائه فرصةً يختبرون فيها حوادثَ ومشاهد عديدة. كما تتشكّلُ في السجن هواياتٌ واهتماماتٌ أخرى للسجناء. كانت موسيقى بيتهوفن محلّ نقاشٍ بين السجناء؛ في أحد الأيامِ وفي محاولةٍ للتشبّث بالحياة أو لقتل اللامعنى الذي كان يعيشونه، حيث لا وجود للزمان، ولا للأنس أو حتى الجن، قرّروا تأسيس فرقةٍ غنائيةٍ..»كانت نشازاً كبيراً»، لكنها نجحت.
في زاوية أخرى من السجن نعثر على خلافات اليسار الإيراني داخل السجن، إذ لم تستطع يوميات القهر أن توحّدهم حتى أثناء التعذيب، وهو ما تعكسه قصةُ الشاب الإيراني التروتسكي، الذي عاد هو وآلافُ المغتربين إلى البلدِ بعد انتصارِ الثورة ممن قضوا عمراً في أوروبا والولايات المتحدة، ورغم أنّ الثورة قدّمت لهم الفرصة الأولى لإنهاء حياتهم في المنفى والعودة للوطن، لكنهم لم يعلموا أن منفى آخر أكبر حجماً وألماً في انتظارهم. غير أنّ أبناء «اليسار الأصيل» بدوا مُستائين من هؤلاء الكوزموبوليتانيين المتغطرسين الذين عادوا إلى الوطنِ، بعد أن حلّ الأمان فقط.. كانوا حسب ما يُردِّدُ رفاقُ قمري «متسمّمين بالغرب» جداً، وسريعي التأثّر بالثقافات الغربية التي ضربت ثقافتنا ومبتعدين عنها. سنتعرف أيضاً على حال ومصير الطبقات الثريّة في إيران بعد الثورة، من خلال قصّة شاهين، الذي كان يهتمُّ بأشياء صغيرة مثل ترمسه المزخرف والمصنوع من الفولاذ المقاوِم للصدأ. كان ينحدِرُ من أسرةٍ ثريةٍ، ولذلك لم تترك لغة جسده وهوسه بـ«المتع الصغيرة في الحياة» و«الترتيب الصحيح للأشياء» مجالاً للشكِّ في ماضيه المميّز، بدون الاعتراف بذلك حتّى.
شعر أنّه مسؤولٌ عن «تجميل زنزانتنا لأنه اعتقد في سرِّه، أن البقية لا يملكونَ حِسّاً جمالياً. كان يستيقظ كلّ يومٍ ليطالب الجميعَ بطيّ بطّانياتهم بطريقةٍ معينةٍ، كما خصّص ساعتين ثلاث مراتٍ في الأسبوع لتعليم الإنكليزية لرفاقه المحكومين بالإعدام».. كان يهربُ من خلال هذا العالمِ الجميل الذي يصنعه في السجنِ من الجنون الذي لم يصِبه فقط، بل أصاب عائلاتٍ برجوازيةٍ كبيرةٍ، قبل أن تهرب خارج البلادِ، لكن شاهين لم يحالفه الحظ فقد سيق للإعدام.
«خالو قمري»
لن ينسى قمري في هذه الذكريات حكاية صلاح الكردي، الذي كان يناديه بعبارة «خالو»..كان صلاح قروياً بسيطاً، ومُولعاً بسرد قصّة حصوله على ساعةٍ لليد تحتوي على كبسةٍ للإضاءة. لم يُبعِد الضوءُ الصادر عنها القليلَ من وحشة السجن وحسب، بل ذكّره أيضاً بقريته والجبال التي عاش فيها مع مئات الآلاف من الأكراد. أصبحت الساعةُ نقطةً مركزيّةً يدور حولها حنينُه للحياة الريفية، عالياً في ظلام الجبال، لمحاربة الظلمِ، وتحقيق مجتمعه الطوباوي، الذي يملك فيه كل شخصٍ ساعةً كالتي يملكها. ربما عكست قصّته أحلام الكرد البريئة في جبالهم. بيد أن هذه الأحلام لن تُكتب لها الحياة، إذ سيُطلَبُ كباقي من عرفهم إلى الإعدام، لكن قبل أن ينساق لخلاصه من الجحيم، وضع القبعة الكردية البيضاء والسوداء على وجهه ثم أهداها لحافظ ذكرياته (قمري)..لا يخبرنا قمري عن مصير هذه القبعة ولا عن مصير البنطال الذي أهداه إياه جنرالٌ إيرانيٌ مؤيّدٌ للثورة سُجِن لاحقاًّ بتهمة الخيانة. لعلّه آثر هنا أن يحفظ لنفسه جزءاً من ذاكرة القهر التي تبقى مرافقةً لآلام السجين طوال حياته.
سيمضي ثمانية وستون ممن عرفهم في السجون إلى الإعدام، بينما سيقوده الحظ الجيد، إلى الإصابة بالسرطان، ويا لها من مفارقة. سيضّطرُّ كلّ يومٍ، خلال المرض، إلى ركوب درّاجةٍ ناريةٍ، وهو معصوب العينين في الهواء الطلقِ تحت المطر، جالساً خلف سجّانِه الذي يقودُها، لتقلّه إلى المُستشفى من أجل العلاج الكيميائي؛ وبعد أن فقد الأطبّاءُ الأملَ من علاجه سيعمل آيةُ الله منتظري، الذي كان يُعدُّ الرجلَ الثاني بعد الخميني على إخراجه.
ظنّ لوهلةٍ أنّ خروجَه قد يُعدُّ بدايةً جديدةً، بيد أنّ منتظري المخلص سيُدفَعُ، بسبب دفاعه عن السجناء السياسيين، إلى الإقامةِ الجبرية خمس عشرة سنة حتى ماتَ. بكى يومها مئات الآلاف على موته رغم المنعِ الرسمي، وربما ما زال الإيرانيون يبكون إلى يومنا هذا على ثورةٍ رقصوا فيها قبل أن تتحوّل إلى حفلٍ تأبيني طويلٍ لإيران ولأهلها.
المصدر | القدس العربي