في صلاة الجمعة وقبل أن أرفع رأسي من السجود الأخير سقط الصاروخ الأول قريباً من الجامع الذي أصلي فيه عادةً في مدينة إدلب، لا أدري كيف وصلتُ إلى مكان الصاروخ لأرى جريحاً واحداً فقط! هناك عنايةٌ إلهية أحاطت المكان بمن فيه!
تكلم الجريح ببضع كلمات أمام الكاميرا وكنت أنظر في عينيه مستغرباً ثباته فالطائرة الحربية ما زالت تحلق فوقنا!
وفي غضون أقل من خمس دقائق سقط الصاروخ الثاني والغبار البعيد صار سحابة كبيرة اختلطت مع سحب شهر أيلول في أيامه الأخيرة!
في الظهيرة كان عليّ الانتقال إلى مكان آخر يتمتع بطبيعة ساحرة وهناك مجموعة من النساء والشابات اجتمعن في معرض للأعمال اليدوية!
ولم يكن سهلا أبداً أن يصلن للمكان بسلام فالقصف على مدينة جسر الشغور والبلدات الأخرى في ريف إدلب كان في أشده مما جعل الكثير من السكان ينزحون لمناطق أخرى أكثر أمنا.
ملابس للأطفال وللكبار مشغولة بإتقان، ودمى تنتظر من يعيد لها الحياة بعرضها أمام الزائرين، وكثير من الأعمال الفنية اليدوية التي أنفق مبدعوها وقتا وجهدا كبيراً في صناعتها.
كلها محبوسة في صناديق تنتظر أن يتوقف القصف أو يهدأ قليلاً فيتسنى لأصحابها أن يخرجوها من معتقل الصندوق لباحة الحياة!
لم يهدأِ القصف الروسي على مدار أيام، وازداد إصرار المبدعات على عرض أعمالهن الجميلة التي صنعت بخيوط من الحب والحرب!
جلست على الكرسي وهي في غاية التعب تروي أمام الكاميرا رحلة رعب عاشتها مع زوجها وهم يخرجون كنوزهم اليدوية من داخل بيتهم بعد أن هجروه لأيام بسبب القصف العنيف.
وصلوا بسلام وفتحت الصناديق الكرتونية وعادت الروح للمشغولات اليدوية وهي تزهو بعرضها على طاولات مغطاة بالقماش الذهبي وفي قاعة كبيرة مطلة على حديقة هادئة.
هدوء المكان وسحره اجتمع مع جمال الأشياء المعروضة، وصخب الإعلاميين والزوار الذين جاؤوا من أماكنَ بعيدة ليروا إبداعاً حقيقياً في الإرادة والإصرار على بناء حياة جميلة تطفو على سطح حياة مليئة بقبح الدمار والقتل والدماء، وكأن المعرض بمحتوياته يوجه رسالة عالمية بصوت النساء اللواتي يتجرعن الخوف والألم بأنهن صامدات مبدعات لآخر لحظة في الحياة.
لم ينتهِ يومي بسلام كما كنت أتمنى، فالطيران الحربي عاود القصف من جديد وأنباء عن عالقين تحت الأنقاض على بعد كيلو مترات معدودة!
أغلقت عين الكاميرا على مشاهد رائعة من قلب طبيعة ساحرة، وأسرعت بصحبتها إلى مكان القصف.
فتحت الكاميرا عينها من جديد على صور عائلات تحفر وتزيح الأنقاض للبحث عن أقاربها! والعتمة كانت تلف المكان وأضواء قبعات رجال الدفاع المدني تخلق جوا من التوتر والرجاء! فلعله يخرج أحد الأحياء من تحت الأنقاض، ولعله يكون طفلاً أو شاباً ولعله يخرج الجميع بلا أذى، فالله على كل شيء قدير!
لم أستطع أن أكمل حتى النهاية، فالتقطت مجموعة من الصور من زوايا متعددة وأغلقت عين الكاميرا على مشهد في غاية الألم، واعتذرت عن قساوة المشهد للكاميرا التي ترافقني طوال الوقت وترى معي الحقيقة وتنقلها إلى أبعد مكان في العالم!
وحين وصلت البيت كانت مهمتي الأخيرة تحميل الصور الفوتوغرافية للموقع الإلكتروني الذي أعمل معه، ولا أدري كيف نامت عيناي في تلك الليلة وقد امتزجت أصوات العصافير وطلقات الرصاص في حلم طويل كنت أحلم به دون أن أعلم كيف سيكون يومي مع إشراقة صباح الغد.
هل سأصحو على صوت العصافير؟ أم سأفزع من صوت القذائف؟!