د. وائل الشيخ آمين
إذا رأيت مجتمعات متقدمة فاعلم أن هنالك منظومة أفكار بنَّاءة منتشرة في هذه المجتمعات أدَّت إلى نهضتها، وإذا رأيت مجتمعات متخلفة فاعلم أن هنالك مجموعة من الأفكار المتخلفة أدت إلى تخلفها ولا تزال تمنع نهوضها وقيامها.
نستطيع أن نشبه الأفكار التي تؤدي إلى نهضة الأمم بالبذور، التي تُوضع في تربة مناسبة فتنمو وتثمر نهضة، لكن عندما تكون هذه التربة التي تمثل واقع المجتمع مليئة بالسموم والأشواك فعندها لن تسمح لبذور النهضة بالنمو.
تمثل الأفكار الخاطئة الهدَّامة هذه الأشواك والسموم، ولذلك فإن بداية نهضة الأمم لا تكون عبر الأفكار البنَّاءة فحسب بل لا بد من تهيئة البيئة أيضاً وذلك بتنقيتها من الأفكار المدمرة وبتصحيح طرق تفكير الناس ليتقبلوا الأفكار البناءة.
وسنضرب على ذلك مثالين كبيرين:
المثال الأول: هو الحضارة الإسلامية التي بدأها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، فقد بُعث في مجتمعات متخلفة تسير عليها مجموعة من الأفكار المتخلفة التي يستحيل بوجودها أن تقوم نهضة، مثل الإيمان بالخرافات، والاعتقاد أن الحجارة آلهة تعبد، واحتقار المرأة وظلمها، والإعراض عن العلوم، وتمايز الناس عن بعضها بالعِرق أو المال.
فجاء الإسلام ليصحح هذه المفاهيم الخاطئة، فأجاب عن أسئلة الإنسان الوجودية التي كان يجيب عنها الدجالون ويستعبدون بها الناس، وهدم الإسلام الأوثان في عقول الناس ليبقى الله سبحانه الإله الأوحد، ورفع الظلم عن المرأة، وحضَّ على طلب العلم، وساوى بين الناس جميعاً وجعل المفاضلة عند الله بالتقوى والعمل الصالح.
وكما أن الإسلام استهدف الأفكار الخاطئة فقد صحح الكثير أيضاً من طرق التفكير، فكانت تلك المجتمعات تسيطر عليها سلطة الآباء، يقول تعالى: “إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون”، وسلطة الكبراء: “اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله”
وصحَّح أيضاً الإسلام طرق أخذ المعرفة فقال: “قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين”، فجعل البرهان أساساً للمعرفة، وأعلى كثيراً من قيمة العقل والتفكير والسير في الأرض والنظر والتأمل فيها.
فكانت حضارة الإسلام العظيمة، ولولا نقد الإسلام لهذه الأفكار المدمرة، ونقده لطرق التفكير الخاطئة، لما قامت حضارة في هذه المجتمعات بل لبقيت على تخلفها.
المثال الثاني:
هو الحضارة الغربية، ونهضتها بعد عصر الظلمات الذي كانت تسيطر فيه الكثير من الأفكار المدمرة، كاعتبار الكنيسة متكلماً باسم الإله وجعل العلم حكراً عليها، فسدت أبواب العلم، فانتشرت مقولة: “لا علم إلا في الكتاب المقدس”.
بل سعت الكنيسة لقتل العقل عند الناس ومنعهم من التفكير حتى كان من شعاراتها: “أطفئ سراج عقلك واتبعني”.
وقامت الكنيسة أيضاً بدور سياسي خطير بأن أعطت الشرعية للقياصرة المستبدين وجعلت طاعتهم والولاء لهم من الدين مهما ظلموا.
ولم ينهض الغرب إلا بعد أن انهارت ثقته بالكنيسة بسبب بعض العلماء الذين ما قبلوا أن يطفئوا عقولهم، فاكتشفوا اكتشافات تخالف ما تقوله الكنيسة، وبعد أن سببت الكنيسة بتحالفها مع القياصرة وأطماعها الكثير من الحروب والدمار، كل هذا جعل الغرب يتمرد على الكنيسة ويبحث عن مصدر آخر للمعرفة غيرها.
فكانت الثورة الفكرية على نقد الأفكار المدمرة السائدة، ونقد طرق التفكير المنتشرة هي بداية نهضة الغرب.
ماذا عنا اليوم؟!
لا شك أن مجتمعاتنا اليوم تعيش حالة خطيرة من التخلف على جميع الصعد، لكن الأفكار المدمرة المنتشرة اليوم ليست ذاتها التي كانت منتشرة في المجتمعات الجاهلية، ولا هي ذاتها التي كانت منتشرة في المجتمعات الغربية في عصور الظلمات، وإن كانت هنالك تقاطعات مع هذه وتلك.
بداية النهضة تكون باقتلاع هذه الأشواك المعيقة، باستهداف الأفكار المدمرة وطرق التفكير الخاطئة، بكشفها ابتداءً ثم بنقدها ثم بوضع المفاهيم الصحيحة.
لتكون تلك المفاهيم بذوراً بناءةً في بيئة مهيئة لتنمو فيها فتكبر وتثمر حضارة نرجوها.