أدبُ الحنين

صهيب طلال إنطكلي

2٬779

تتواردُ الأنباءُ خجولةً عن عَودٍ قريبٍ إلى حلب، ربّما أَنّ هناكَ أخبارًا حقّةً عن هذا الفتحِ المُنتظَر والمُشتهى معًا، وربّما أنّ أرواحنا التّوّاقة إلى حلبَ هي الّتي تخترعُ أنباء العودةِ اختراعًا؛ فالحنينُ إلى المدينة العتيقة يشبهُ الحبّ الذي قالَ عنه نزار قباني:

الحُبُّ في الأرضِ بعضٌ من تخيّلنا                           لو لمْ نجـدهُ عليها لاخترعنـاهُ
نعم، كلا الحَالين واردٌ، لكنّ الحالَ الأكيد أنّنا ذُبنا شوقًا إلى المدينةِ بعد مرورِ كلّ هذه السّنوات من الاغتراب القسري،
وهذا الحنينُ والأمل ليس بمَلكِنا ولا قدرتِنا، فلقد واللهِ أخذَنا ما أخذَ النبيّ العربيّ صلى الله عليه وسلم حينَ ذرفتْ عيناه الكريمتان وهو وصاحبه ينظرانِ مكّة يوم الهجرةِ، وما خفّف عنه الوَجدَ والشّوقَ إلا وعدُ الله تعالى حيث قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ)
إنّها البشارةُ الإلهيّة بعودته إلى مكةَ فاتحًا فتحًا مبينًا، قاهرًا لأعدائه، وفي اللغةِ نقول: مَعادُ الرجل: بلدُهُ، لأنّه ينصرفُ منه ثم يعودُ إليه، ونحنُ والله ما انصرفنَا عن الشّهباءِ بإرادتِنا، كانَ حالُنا يتمثّلُ ببيتَي ابنِ زُريق؛ حينَ ودّع فقال:
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي
صَفو الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ
وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَى
وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ
لديّ ثلاث بناتٍ وهبني إيّاهنّ الله سبحانه في ظلِّ الثورة المباركة، كان القدر أن تأتي كُلّ واحدة منهنّ في غربةٍ مختلفة، ولدتِ الكبرى رغد في مدينة الدانا، وماسةُ الوسطى في بلدةٍ حبيبةٍ تُدعى أورم الكُبرى، أما ملاك فأبصرتِ نور الحياة والحريّة في مدينة عفرين في الريف الشمالي لحلب الأرواح، بناتي هنّ جزء بسيطٍ من صورة مؤلمةٍ لجيلٍ يعدّ بعشرات الآلاف وربما المئات ولدوا جميعًا ونشؤوا بعيدًا عن المدينة الأم، عندما أردتُ أن أحكيَ لبناتي عن حلب حضرني شعورُ جبران ومعانيه في (أجنحته المتكسرة) حين أراد أن يصف سلمى كرامة: فقال (وسلمى كرامة كانت جميلةَ النفس والجسدِ، فكيفَ أصفُها لمَن لا يعرفها؟ هل يستطيع الجالسُ في ظلّ أجنحة الموت أنْ يستحضرَ تغريدةَ البلبلِ وهمسَ الوردةِ وتنهيدةَ الغدير؟ أيقدرُ الأسيرُ المثقلُ بالقيود أن يلاحقَ هبوب نسمات الفجر؟ ولكن أليس السكوتُ أصعب من الكلام؟ وهل يمنعني التهيبُ عن إظهار خيالٍ من خيالات سلمى بالألفاظ الواهية إذا كنتُ لا أستطيع أن أرسمَ حقيقتها بخيوطٍ من الذهب؟!

اقرأ أيضاً أمريكا تحدد أربع نقاط لمكافحة تجارة المخدرات المرتبطة بالأسد

نعم، كلمات جبران وبعد مرور كلّ هذه السّنوات عليها تكاد تصفُ حالنا بدقّة غريبة، نعم إنّني لا أستطيع ان أرسمَ حلبَ بخيوطٍ من ذهب، فأصفها لبناتي كأجملِ ما يصفُ العاشقُ حبَّه الأوّل والوحيد، ولكنّ التّهيّبَ – يا جبران- لن يمنعنى أن أحدثَهنّ عنها، لطالما طلبت مني رغد أنْ أحدّثها عن جدتِها (أمّي) فاسمُها على اسمِها، قلت لها جدّتك من حلب القديمة اجتمعت فيها كل صفات النساء في حلب، كانت تبذل وتضحّي وتعملُ تحمل اعباءَ الحياةِ مع جدّك طلال، وهكذا هنّ الحلبيات، كانت متعلّمةً ومبدعةً وقادرةً على المزيد من الاكتساب دائمًا، وهكذا هنّ الحلبيات، نعم يا رغد كَثيرةٌ محاسنُهن، ربّما سأحدّثكِ عنها إن شاء الله واحدةً تلوَ أخرى، وأهمسُ في أذُنكِ لتتذكّري دائمًا أن تكوني مثلهنّ.
ربّما أنّك يا قارئي وأنت تقرأ وصفي تتّهمني بإفاضةِ المشاعر، وهذا حقٌّ، ولكن المقام هنا يستدعي، فحلبُ بالنسبة لأهلها ليست مجرّد مدينةٍ سكنوها، إنّها ذكرياتُ الطفولةِ حين كنتَ تصحو باكرًا على نغمةِ التّسميعِ لصلاة الفجر في جامع بني أميّةَ الكبير، إنها الشارعُ الذي يحوي خطواتك الأولى مع الأطفال، إنها تشبه أباكَ الذي شابتْ روحُه وهو يجاهد أن يزرعَ فيكَ خُلُقًا كريمًا، ليقف يومًا كقائدٍ فاتحٍ وهو يستمع من الجار يُثني عليكَ، فيقولُ: (نِعم التّربية، ما شاء الله)، فيعود الأبُ بكلماتٍ تشبهُ الكنز المعتّق، إنها مدرستك الابتدائية ومعلّمتك البديعةَ حينَ أمسكتْ يدكَ بالقلم للمرةِ الأولى في الصّفّ الأوّل ورسمتْ بيدكَ أنتَ أوّلَ حروف الأبجدية.
إنّ حلب ليست مجرد مدينة سكنّاها، إنها ذكرياتنا وبيوتاتنا وطعمَ الشّايِ عند العصرِ أمام البابِ المرشوشِ بالماءِ المُشتهى، إنّ حلب عنوان نجاحاتنا وخيباتنا معًا، عنوانُ فرَحِنا بعرسٍ بسيطٍ شاركَ في التحضير له كلُّ أهل الحارة الطّيبين، إنها حزننا بفقد عزيزٍ وجدَ أهله حين ماتَ كثيرون جدًا، شملوا كلّ أهل الحيّ أو يزيدون، إنّها اجتماعنا في الأفراح والأتراح.

نعم، لقد تابعتُ منذ يومَين صورًا مسربةً على أعينِ الطُغاةِ من حلب، تظهرُ المدينة المكلومة فيها يُسمعُ لها حنين، كحنينِ الإبِل العِتاق، نعم إنّ حلبَ حين رأيتها منذ يومين كانت تحنّ إلينا، فهلّا نلقى الأحبةَ هناكَ، وهل يجمعُ الله الشّتيتَينِ بعدما يظنّان – وبعض الظنّ إثمٌ – كلّ الظنّ ألّا تلاقيا؟!
بإذن الله يجمع

 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط