عندما ندافع عن الانحياز كأساس للحرية في الصحافة، ونقول إنه لا يوجد صحافة حيادية، وإن الحيادية لا تعني أبداً الحرية، ولا علاقة لها بأي مهنية مفترضة في عالم الصحافة، يرد علينا المتحذلقون، أو المنحازون لأوهام الوقوف في المنتصف عند نقطة حياد مفترضة، بأنّ الصحافة الغربية هي نموذج للحياد، ولعدم تبني مواقف معلنة في سياساتها ومنشوراتها ضد أي جهة أو طرف خاصة في التغطيات للأحداث العالمية أو القضايا التي تشغل الرأي العام، وذلك من أجل أن يحافظ المواطن الغربي على عقله سليماً وهو يختار ما يؤمن به دون تأثير مسبق.
وعندما تحدثنا عن الانحياز المفرط ضد المجتمعات المحافظة إلى جانب موجة الشذوذ الرائجة، تم تغطية هذه القضية بوصفها ذات بُعد تشريعي في تلك الدول الداعمة للشذوذ، يخضع له المجتمع ومؤسساته على السواء، وتلتزم به الصحافة التزامها بالقضايا الإنسانية التي هي فوق (الحيادية المفترضة)، ومع ما تمتلئ به هذه العبارات من تدليس ولا موضوعية وتسلطها على جزء كبير من تلك المجتمعات بالقوة، تم تمرير هذه القضية إلى جانب قضايا مشابهة (معاداة السامية – الموقف من الكيان الصهيوني – دعم الإسلاموفوبيا – مهاجمة التدين – …) ذات أبعاد منحازة بوضوح كموضوعات ليست من اختصاص حرية الصحافة عموماً، ولا يعتبر الانحياز إليها أو الحدّ من تناولها إعلامياً خادشاً لمبادئ الحياد والموضوعية وحرية الصحافة.!!!
إلى جانب ذلك تحدثتُ أكثر من مرة أن الموضوعية والمهنية في الصحافة تستند إلى التعبير عن الانحيازات والمعتقدات بوضوح، وإن قدرة المتلقي للإعلام على الوصول إلى مصادر المعلومات المختلفة بكامل تحيزاتها وبناء رأيه المستقل بعد هذا الاستعراض هو الذي يمثل موضوعية الصحافة وحرّيتها، وهو الذي يحترم عقل المتلقي وقدرته على المفاضلة والمقايسة.
لا أريد الإطالة في استعراض حرية الإعلام كما نقتنع بها كإعلام جديد مستقل خرج من حرب كبيرة، وتجربة مهمة في فهم الحرية وأبعادها، وما زلنا نشهد مخاضاتها، ونجرب الكثير من المقولات الرائجة عنها، ونحاول صياغتها ضمن أبعادها الحقيقية التي نؤمن بها، كفضاء مفتوح للجميع وبمساحات متساوية واحترام متبادل، وانحيازات جريئة تعكس حقيقة المجتمعات وهويتها دون مواربة أو تماهي مع مقولات رائجة معولِمة تأتي من مجتمعات مختلفة في التكوين والعقلية ورؤية العالم والمعتقد وحتى طريقة العيش … (مما يُفقد المجتمعات الأصيلة تميّزها وخصوصيتها العالمية)
إن حدث عالمي كالانتخابات التركية عندما تغطيها وسائل إعلام أجنبية وعالمية لا تنتمي إلى البلد الذي يشهد الانتخابات، من المفترض أن يكون الحياد المزعوم تجاه هذا الحدث سهلاً وطبيعياً وبدهيّاً، بل وواجباً تفترضه تعاليم الصحافة الغربية، ولكن على العكس يلعب الإعلام الغربي دور المحرض على الحزب الحاكم في تركيا، ويقدم دعاية مجانية للمعارضة، ويعتبر الحزب الذي وصل إلى السلطة بانتخابات ديمقراطية، ويخوض الآن انتخابات لم يسبق لأي جهة عالمية أو محلية أن شككت بمصداقيتها (حزباً ديكتاتورياً)!! ويهاجم رئيس دولة، ويدعو الأتراك لإسقاطه!! حتى أن مجلة الإيكونوميست العريقة جعلت غلافها على توتير تحريضاً مباشراً على أردوغان وانحيازاً للمعارضة بطريقة فجّة مع أن الصحيفة لا علاقة لها بتركيا ولا بالشعب التركي!!!
إن الإيكونوميست هي نموذج للإعلام الغربي في التعاطي مع الانتخابات التركية، ليست الوحيدة، ولكنها الجهة التي كانت الأكثر وقاحة إعلامياً في التدخل بشؤون داخلية لدولة أخرى على طريقة الجيوش الغربية، وباستخدام أسلحة إعلامية لا تقل إجراماً وفتكاً عن الأسلحة التقليدية المستخدمة في الحروب.
إن السياسة الغربية عموماً ترفع القيم فقط عندما تكون في صالحها، وتعلي من قيمة البراغماتية على حساب كل القيم الأخرى، وتقوم بانتهاك كل قيم الحرية وحقوق الإنسان عندما تتحول هذه القيم لأداة تقف في وجه مصالحها، وتُنصب الثقافة الغربية نفسها عموماً كجهة معيارية لمحاكمة القيم! بدلاً من ترك القيم تحاكم طريقة التعامل معها كما يتلقاها الناس في كل مكان في هذا العالم.
لا أريد الذهاب بعيداً في طرح الأمثلة، لأن جولة بسيطة في الانترنت ستكون كافية لاستعراض كم كبير من الأمثلة التي تظهر هذه الازدواجية في الغرب والتحامل الواضح على الشرق عموماً والشرق المحافظ بدرجة أكبر باعتباره درجة أدنى إنسانياً من العالم الغربي، والتدخل السافر الذي يقوم به الغرب بتعالٍ وصلف تجاه المجتمعات الشرقية وحقوقها الإنسانية والاجتماعية وحرياتها الدينية وخياراتها السياسية، وذلك بوضوح كبير من أجل الحفاظ على المصالح الغربية وتفوق العنصر الغربي ولو كان على حساب دماء أبناء الحضارات الأخرى.
إن النموذج الإنساني عموماً الذي يحاول الغرب بيعه بجميع أبعاده الثقافية والسياسية والعسكرية والاجتماعية … نموذج قائم على النفاق والمصلحية والاستغلال غير المتكافئ للموارد الطبيعية وصناعة سعادة جزء من البشر على حساب أجزاء أخرى ترزح تحت أساليب جديدة من العبودية، ولا يوجد عموماً في النموذج الإنساني الغربي ما يستحق الاحتذاء إذا ما حاولنا الكشف عن جذوره، لأن معظم القيم والحضارة الغربية نتجت عن مقدمات غاية في السوء ومن غير المعقول والمنصف تكرارها من أجل خلق نماذج مشابهة حتى في الجانب الجيد منها، فكيف يمكن ذلك في الجوانب المليئة بالسوء والتي تتمتلئ بها الحضارة والثقافة الغربية الحالية.
إن الداعين من أبناء ثقافتنا المشرقية للحاق بالغرب وقيمه وحضارته وتعاليمه، هم بالعموم أبناء للثقافة الغربية، وفطريّات تدّعي انتمائها لثقافتنا وحضارتنا الشرقية، لقد نشؤوا وتربّوا في الغرب، ويعتنقون الغرب كثقافة أبوية، احتضنتهم بشكل خاص دون النظر إلى جميع ممارساتها على بلدانهم ومجتمعاتهم، وهم لا يمانعون بدورهم كتابعين أو كأذيال لتلك الحضارة متربعين على رأس السلطة في بلدانهم، بدلاً من الكفاح من أجل هوية متفردة قد لا تمنحهم ميزات التبعية السهلة.
إننا جديرون في عالم الإعلام والصحافة وفي مختلف القطاعات الإنسانية باتخاذ خطوات شجاعة ومختلفة تسهم في صنع حضارتنا الخاصة بنا، المبنية على العدل والحرية وحقوق الإنسان كما نراها نحن، عبر سياق مملوء بالكرامة والتكريم والعدالة وفهم الآخر واحترام التحيزات والتنوع الإنساني والحريات الكبرى، دون الحاجة للنفاق الذي يدّعي الحياد والوسطية، بينما يؤسس في الحقيقة لإيديولوجيا مظلمة تستغل الآخر وتجبره على تبني مواقف لا يؤمن بها ولا تمثله ولا تحقق سوى مصالح مجموعة معينة. مخادعة ومواربة ومنافقة.
إن التعبير عن الانحياز هو أعلى درجات الشجاعة التي تمثل الحرية الخالصة، وإن قبول انحيازات الناس واختياراتهم والتفاعل بينها، هو ما يؤسس للعمران البشري المتكافئ الحرّ المستند للعدالة.