الانحياز كمنعكس للحرية والموضوعية

أحمد وديع العبسي

0 1٬202

عندما نتحدث عن الحرية أو حتى عن الموضوعية، يأتي مصطلح (عدم الانحياز) كإحدى المرادفات الشارحة، والتي تمثل الإنسان الحر، أو الإنسان الذي يعالج الأمور بموضوعية ومهنية، وأحيانا تضاف لهذه المفردتين مفردة ثالثة هي (الحياد)، والتي تعني أن تقف على مسافة واحدة من جميع المدخلات في القضية التي تناقشها حتى تكون موضوعياً ومهنياً، وتمثل الفكر الحر، غير المتحيز مسبقاً.

والانحياز سمة فطرية في البشر، لا يمكن أن يكون بدونها حراً، وبالتالي لا يمكن أن يحقق أي قيمة أخرى إذا فقد حريته، فإجبار الناس على ترك تحيزاتها وانتماءاتها هو نوع من القهر، وسلب الحرية، والإنسان حرّ بقدر استطاعته التمسك بتحيزاته وآرائه ومعتقداته تجاه موضوع معين أو قضية معينة، وهذه التحيزات التي يعيشها الإنسان هي التي تشكل شخصيته وطبيعته واختلافه عن الآخرين، وبالتالي تثري المجموع العام بزوايا رؤية جديدة نابعة من هذه الشخصية المتفردة لأي موضوع أو قضية، وإلا إذا تشابهت آراء الناس ونظرتهم للأمور، فسيرون كل شيء من زاوية واحدة لا غير، وسيكون التفاعل الاجتماعي ساكن وسلبي، كما سيكون التعبير عن الحرية غير ممكن، لأن الناس يتبعون تعليمات موحدة أشبه بالآلات.

ولا ينبغي أن نفهم الحياد على أنه وقوف في المنتصف، فالحياد جهة ثالثة متطرفة بقدر اليمين واليسار أو الشرق والغرب، فهي في أحسن أحوالها تقع في تلك الزاوية التي تسمى المنتصف، أو هي أقرب للباطل دائماً وللشر، حينما يكون هذا الحياد هو موقف بين حق وباطل أو بين خير وشر، فادعاء الحيادي المساواة بين قيمتين على طرفي نقيض، هو انتماء غير مباشر للقيمة السيئة. ومشاركة لأصحاب هذه القيمة في الجريمة التي يرتكبونها، وظلم للآخرين …

فالانحياز هنا يصبح واجباً تستدعيه إنسانية البشر، وأخلاقهم، والموضوعية تستدعي العمل على مقاومة المجرم وكشفه، لا على إعطائه فرصة مساوية لفرصة الضحية ليعبر عن نفسه، وعن دوافعه.

وما يُطلب في بعض الموضوعات من التخلي عن التحيزات المسبقة تجاه موضوع معين قبل مناقشته، هو نوع من التحيز لهذا الفضاء العام، السطحي الأبله أحيانا، وهو يحرمنا من فهم وجهة النظر المتحيزة تجاه قصية معينة وبالتالي من معرفة كيف يتصرف الأفراد المنتمون لهذا التحيز. ولكن هناك ما يعرف بالدقة، وهي عدم الدخول في مناقشات حول موضوعات أو شخصيات أو مسائل معقدة أو قضايا نمتلك عنها معلومات غير دقيقة أو لسنا متأكدين تماماً من صحتها، هنا تكمن المشكلة التي توصف بالجهل أو اللاعلمية أو اللامهنية … في المناقشة، وليس بالتحيز.

يبقى في النهاية أن نشرح كيف يمكن أن يكون الانحياز انعكاساً للموضوعية، وقد ذكرت ذلك آنفاً، فعندما لا يكون الإنسان حراً لن يكون موضوعياً، فإجبار الإنسان على اعتناق نظرية معينة، أو الوقوف على الحياد في قضية ما، عندها لن يستطيع أن يكون موضوعياً مطلقاً، لأنه تعرض للقهر، وتعرّض للطغيان، فسيكون أقل مهنية وموضوعية فيما يتعرض له من مسائل وقضايا، أمّا احترام حرية الإنسان وانحيازاته، سيجعله أكثر التزاماً بمعايير الموضوعية العلمية والمهنية، وسيؤخذ بالاعتبار أنه مهما حاول أن يكون دقيقاً تماماً، فإن النتائج التي يتوصل إليها تمثله كإنسان يرى الأمور من زواياه الخاصة، التي لا تكتمل إلا بجهود الآخرين والزوايا الأخرى التي يشاهدون من خلالها الموضوعات والأحداث، وبهذا يستمر الإثراء والعطاء والتطور البشري، وتكون الموضوعية قيمة متصاعدة، لا قيمة ساكنة.

فالانحياز هو الحرية، هو تلك القدرة المتفردة للتعبير عما اعتقده بشجاعة ومقدرة وتميز يغني التجربة البشرية العامة والتجارب المجتمعية الخاصة.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط