ألهاكمُ التّكاثر

صهيب طلال إنطكلي

ألهاكمُ التّكاثر
1٬728

اللهمّ إنّا نعوذُ بكَ من موتِ الفجأةِ، تقولُ الأخبار عندنا إنّ مسلسلَ الموتِ اليومي أو الشّهادة اليوميّة باتَ ومنذ بزوغِ شمسِ الثّورة، باتْ حدثًا يوميًّا أو شبه يومي، إلا أن الأيام السّالفة حملت إليَّ الكثيرَ من المشاعرِ الحزينةِ الممزوجةِ بالتأمّل.

الحدث الأولُ استشهادُ عزيزٍ عليَّ يحملُ – وهو أهلٌ لذاكَ- يحملُ لقب نقيب عوائل حلب، إثر انفجارٍ في مدينةِ عفرينَ، أصيبَ على إثره إصابةً بليغةً جدًا، نُقل على الفور للمستشفى حيثَ سلّمَ روحه الذكيّةَ للباري سبحانه وتعالى، نعم شابٌ ثوريّ مبدعٌ مجاهدٌ وحرٌّ إلى حدّ الحريّةِ الحمراءِ تلك المضرّجةِ بالدماءِ، مات فجأةً ودونَ إرهاصاتٍ للغياب الأخيرِ ودونَ وداع.

اقرأ أيضاً: تشكيل هيئة سياسية للعمل الوطني في السويداء

والحدث الثاني أو موتُ الفجأةِ الثاني: حدثَ البارحة في مدينةِ بنش إثر حادثِ سيرٍ أليمٍ جدًا حدّ الدّهشة، السيارةُ التي صُدمتْ كاد الارتطام على قوته يمحُها، نعم أنا لا أبالغ، فمَن رأى السيارة ظنها أطلالًا وظلالًا لأناسٍ كانوا فيها، ويقايا لا أكثر، ومات فيه فجأةً كذلك عددٌ من الشهداء أظنهم 5، وأصيبَ آخرون، ومن الشهداءِ فجأةً زوجة معلّمٍ مربٍّ مشهور في اللغةِ العربية وآدابها، رأيتُ اليومَ صورةَ الأبناءِ الصغارِ يجلسونَ القرفصاءَ حول قبرٍ أمهم الشهيدة، فبكيتُ، نعم فبكيتُ، لا شيءَ يؤلم مثل الغياب فجأةً، وقررتُ أن أكتُبَ، وأنا ألهجُ بالدعاء: اللهم إنا نعوذ بكَ من موتِ الفجأةِ.

نعم، وقبلها منذ أيام استشهدَ فجأةً ولدُ دكتورٍ جامعيٍّ غالٍ علينا، نعم ماتَ وهو شابٌّ تفتَّحَ للتوّ أو يكادُ، مَن رآه تعجبَ حقًا كيف يكونُ الشهيدُ جميلًا إلى هذا الحدّ! والشواهد على الموتِ فجأةً لا تحصى، تأمَّلتُ تلك الحالات اليوم وأنا منغمسٌ في عملي، أكتبُ تقريرًا لا بدّ منه عن سير العملِ هنا، نعم، نحن مشغولونَ دائمًا، تمامًا كما وصفتنا الآياتُ القرآنيّة بدقّة بديعةٍ (ألهاكمُ التّكاثرُ، حتّى زرتُمُ المقابر) نعم.

عندما كنتُ صغيرًا لم أكنْ أجدُ فهمًا لهاتين الآيتين، كنتُ أقولُ في نفسي: (نحن نزور المقابر كلّ صباحِ عيدٍ دائمًا؛ ونزورها أحيانًا في أيّامٍ أُخر، بمعنى أن الزيارة في مخيلتي أمرٌ جيدٌ، نزور موتانا ونتعظُ بهم، نتذكر الموتَ، الأمر جيدٌ على كل حال فما معنى هذه الآيات إذًا؟

لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على واتساب  اضغط هنا

وكبرتُ وفهمت المعنى، أنّ المقصود والمخاطب ب (زرتُمُ المقابر) هو نحن لا سوانا، نحن حين نموتُ فيكون القبرُ محطةً نزورها ثم نغادرها إلى اللهِ يومَ البعثِ المُبين، نعم كبرتُ وبدأ الموتُ الطبيعيُّ ينسابُ حولي، أتعرفُ ملامحه مع كل ميتٍ جديدٍ من معارفنا أو أقربائنا، ثم حدثَ الموتُ الأشد ألمًا حين ماتَ أبي، رحمه الله وبعده بسنوات أخذ الحنينُ أمي إليهِ فماتت رحمها الله ولحقتْ برفيق دربها بعد معاناةٍ طويلةٍ مع المرضِ المنهك.

ومع بزوغ بوادر الثورة بدأ الموتُ يتصاعدُ أكثر فأكثرَ، ولم يعد للموتِ الطبيعي مكانٌ يليقُ به بين أنواع الموتِ الأخرى، ليتصدرَ موتُ الفجأةِ المشهد العام جميعًا، فجأةً تقصف طائرةٌ فيموتُ شهادةً بشرٌ كثُرٌ هكذا دونَ مقدمات، فجأةً تنزل قذيفةٌ، وفجأةً تنفجرُ عبوةٌ، وفجأةً يتوقفُ قلبٌ خوفًا أو كمدًا أو ألمًا أو تعبًا، أو يتوقف لأنّه ملّ النبضَ دون حياة.

نعم إنه موتُ الفجأةِ الذي يطاردنا في كلّ زاويةٍ وشارعٍ وبيتٍ في وطني، تقبل اللهُ الموتى جميعًا فجأةً أو طبيعيًا، تقبلهم شهداء، وجعلني وإياكم من المتعظين بغيرهم، الذينَ وضعوا الدنيا في أيديهم، ووضعوا الآخرةَ في قلوبهم فعملوا لها عملَها وهم محسنون..آمين.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط