عندما أراد أحمد شوقي أن يتحدث عن الحرية، أبدع في تصوير مشهد النضال في سبيلها ببيته الشهير:
وللحرية الحمراء بابٌ بكل يدٍ مضرجةٍ يُدق
كان شوقي يومها يتحدث عن الحرية من المستعمرين، ولم يكن يعلم أنه سيصور مشهدًا حقيقيًا لمن يطلب الحرية من المستبدين والطغاة في عصرنا هذا، فلا ألوان للحرية غير لونها الأحمر، ولم تقدر على لمسها سوى الأكف المخضبة بدماءٍ تسيل من نحور أصحابها، والباب موصدٌ في وجه طلابها، فها هي عشر سنواتٍ مرت ولم يُفتَح أمام ملايين الأيدي المُضرَّجة التي طرقته، ومئات الآلاف من الأرواح التي أزهقت على عتباته.
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا
عشر سنواتٍ على حُلمِ الحرية، ودَّعنا فيها أحبةً ومدنًا وأحلامًا كثيرة في سبيل حلم واحد رأيناه غاية الحياة ومنتهى أملها (الحرية)، وما أشوق الحناجر التي تختنق بالدماء، والعيون التي تملؤها الدموع لمعانقة إشراقتها يومًا ما، وإن طالت الأيام وامتدت السنوات، فلا بديل للأحرار عنها، ولا كرامة لهم بغيرها، ولا عدالة تُرتَجى دون حرية يستطيع فيها المظلوم الصراخ في وجه ظالمه بلا خوف.
لا ينبغي للثورات أن تهدأ إذا لم تعانق غاياتها، ولا ينبغي لها أن تستمر إن صارت هي الغاية، فالثورات لا تصلح لتجديد العهد، إنما نجدد العهد على ما كانت الثورة في سبيله، والثورة التي لا تدرك وجهتها هي رحىً تطحن أبناءها، وفوضى تعصف بهم، وما أزال أكرر في كل عام شيئًا يشبه هذه الكلمات وأنا أرى الثوار قد تفرقت بهم السبل، وتعددت الغايات، وأصبحت الثورة لهم بوصلة وقبلة بعدما فقدوا الأرض التي أشعلوها بثورتهم، فتاهت أرجلهم شرقًا وغربًا، وصار لكل فريق منهم غايات تعجز عنها ثورة واحدة فرقت شملهم بدل أن تجمع غاياتهم.
لا أستطيع أن أرى من الثورة إلا أنها حصانٌ يسابق الريح إلى الحرية، وبندقية تدافع عن الكرامة، ومطرقة تنشد العدل في يد الأحرار، أمّا أن تصبح أداة مزاودة وسيطرة وتغول بعض الناس على بعض، فلا كانت الثورة، ولا كان مُدَّعوها.
وقد يسقط الحصان من التعب، وتنكفئ البندقية من الصدأ، وتُسرق المطرقة من يد الأحرار، لكن الحرية باقية، والكرامة باقية، والعدالة باقية، وهذه القيم الخالدة هي الشيء الثمين الذي يدفع الإنسان روحه في سبيله.
اقرأ ايضاً: أربعة قتلى بينهم عنصر من الخوذ البيضاء حصيلة القصف الروسي شرق حلب
وإن مرّ عقد من الزمان، فقد مرت قرون قبل ذلك لم تتغير فيها القيم، ولم يتبدل المناضلون في سبيلها ما بقيت قلوبهم مجتمعة على مطالب واحدة لا تفرقها المصالح والأهواء، ولا يقتلها حبّ المزاودة المقيت ممَّن صدَّعوا رؤوس الناس بتضحياتهم وهم يعيشون برغد وهناءة خارج حدود الوطن، فهؤلاء أولى الناس بالعمل بصمت إن كانوا أصحاب عمل، أو النصح برفق إن كانوا أهلاً للنصيحة.
على هذا نجدد عهدنا لمئات السنين القادمة بثورة أم بغيرها، فالحرية غالية، وكل الذين أبصروا شيئًا منها قد أخذتهم الفتنة، ووضعوا أرواحهم على أكفهم في سبيلها، فهم يعرفون أن المهر غالٍ لمن ينشد المبادئ والقيم، وحالهم وهم يضحون من أجل الحرية هو ما قال شاعرهم:
حامــــلُ حــبهـــــا ثـلاثــيــــــن قـــــرنًا فوق ظهري وما هناكَ معينُ
كم قتـــلنــا في عشــــــــقنا وبعثنا إن مَهْــرَ المُناضـــــلات ثميـــــنُ
رحم الله نزار قباني …