ليس من عادتي أنْ أكتُبَ باكرًا؛ ولكنْ خليلَ الأمسِ وحوارَه عند المساء دعاني أن أكتُبَ صُبحًا، لطالما كان حديثُه يختلفُ عن الأحاديث اليوميّة العابرةِ أو المألوفةِ عند النّاس؛ أحاديثُ النّميمة الصّباحيّة أو بعد الظهر أو في المساء؛ أمّا صديقي فإنّه على غير العادة لا ينمُّ، لم ألمحه مرّةً يسكبُ الكلامَ بلا معنى ودون جدوى؛ إنّه يتطرّقُ إلى موضوعاتٍ مهمّة وغير مألوفة، إنّها ببساطة موضوعات الخواص.
ولأنّه يعرفُ ويعلمُ الكثير فهو مختلفٌ في تفكيره وفي نظرته للحياة؛ مختلفٌ في سلوكه وغاياته؛ وهذا الاختلاف هو أهم مصادر عذاباته الدائمة وكثرة تأوّهاته، نعود إلى البارحة؛ حين جاءني مساءًا يمشي على استحياءٍ؛ قال: إنّي أودّ أن أحدّثك.
اقرأ أيضاً: مظاهرات تطالب بإسقاط النظام تعم سورية وإعلام الأسد يرصد أمطار الحسكة
وعلى الرغم من تعبي بعد يومٍ طويل؛ وطول انشغالي في شؤونٍ لا يبدو لها نهاية؛ وافقت على مضضٍ.
جلسنا معًا في فسحةٍ من الليل واسعةٍ؛ تحت ظلّ شجرةٍ ماتتْ من طول وشدّة الانتظار؛ فبقي ظلّها؛ القمر يحاولُ جهده أن يُنيرَ أكثرَ؛ لكنه بالكاد استطاعَ أن يكشف سواد الليل قليلًا، قلت: أعلم أنّك لا تُحبّ القهوةَ؛ وتعلم أنّي أحبها؛ لذلك ائذن لي أن آتي بفنجانٍ مرٍّ لي؛ وشايٍ حلوٍ لك.
أجاب بخفض رأسه قليلًا؛ أي نعم.
حملتُ الشّاي بيدٍ والقهوة بيدٍ أخرى؛ أتحسسُ طريقي في عتمةٍ بهيّةٍ أحاولُ الوصول إليه؛ هو هناكَ أمامي وحيدًا على الكرسيّ الخشبيّ العتيق؛ يرفع رأسه يبحثُ عن القمر دون جدوى.
أقتربُ منه أكثر؛ حتّى ناولته الشّاي؛ وجلستُ وحدي بجانبه؛ قلتُ هوّن عليكَ؛ ما الّذي يؤلمكَ هذه المرّة.
نظر إليّ بعينَين متعبتَين وقال: أَثَري.
لم يُدهشني طبعًا ما يؤلمه لأني أعرفه جيّدًا؛ حاولتُ أن أجعله يبتسم؛ فقلتُ: ومِن أين تتوجعُ لأثرِك؟
ابتسم؛ و رشف شايًا؛ وقال: والله أحدّثكَ؛ أثري يؤلمني؛ منذ قرأتُ قولَ اللهِ سبحانه: (ونكتبُ ما قدّموا وآثارَهم وكلَّ شيءٍ أحصيناه في إمامٍ مبينٍ)؛ وأنا أفكّر بأثري.
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على واتساب اضغط هنا
رشفتُ من قهوتي وأنا أُحدّقُ في ملامح وجههِ اللطيفة المضيئة؛ قلتُ: هل قرأت عن معاني هذه الآية الكريمة؟
قال بصوتٍ نحيفٍ: نعم؛ قرأتُ، قلتُ: هاتِ.
التفت إليّ؛ حاول النّظر إلى وجهي؛ قال: أحد المعاني؛ أنّ الله سبحانه يحصي علينا أعمالنا الّتي نقوم بها في دُنيانَا الفانية؛ و آثارَنا؛ أي يُحصي علينا أيضًا ما أَثَره عنّا غيرُنا بعد موتِنا فعملوا به؛ إنْ خيرًا فخيرٌ لنا أيضًا وإنْ شرًا فشرٌّ لنا أيضًا.
نظرتُ في قهوتي دون أن أرشف منها؛ ونظرتُ إليه؛ قلتُ: يا الله؛ كم نحن في غفلةً؛ وكم أنّنا – بهذا المعنى – لا نحرص أبدًا على آثارِنا.
قال: نعم؛ وإنّ هذا المعنى يوافقُه قولُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم (مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ).
جاءني الحديثُ بصوتِ رفيقي وكأنّي لم أسمعْه من قبلُ؛ وهو الذّي مرّ على عقلي مرّاتٍ ومرّات ولكنّه لم يُوافق قلبًا صافيًا واعيًا؛ وقد وافقها الآن والحمد لله.
الليل ينسربُ إليّ يلُفّني ومحدّثي؛ وحديثُ الأثرِ له شجون؛
محدّثي قال: يأخذُنا معنى الآية هذا إلى سببٍ آخر وجيهٌ لنتفنّن في عملِ الخير؟ قلتُ: ما هو السببُ الأول والآخر؟
قال: الأوّل نفعل الخير ابتغاء مرضاة الله؛ والثّاني أمًلًا أن يُعملَ به من بعدنا؛ فيكون أثرَ خيرٍ لنا يأتينا بالحسناتِ ونحن راقدونَ رقدتنا الأبدية، قلتُ: يا الله، قال: وبالمقابل يأخذُنا إلى سببٍ آخر وجيهٌ لنحرصَ ألّا نتفنّن في الشّر، قلتُ: ما السببُ الأوّلُ والآخر؟ قال: الأول أنُ لا نُكبّ على وجوهِنا في النّار والعياذُ بالله؛ والثّاني خشية أن يُعملَ به من بعدنا فيكون أثرَ شرٍّ لنا والعياذ بالله يأتينا بالسّيّئات ونحن نحاول عبثًا أن نرقد رقدتنا الأبديّة.
فنجان قهوتي جفّ من الهواء الّذي طاف عليه؛ وشاي صديقي برد جدًّا وهو ينتظرُه على جنبٍ بأدبٍ وصبر.
المعاني تتردّدُ في عقلي المتعب؛ يقف مودّعًا؛ أضمّه بقوّةٍ؛ ويغيبُ عنّي شيئًا فشيئًا؛ أنسحب أنا بهدوء والأثر يشغل بالي وبالَ صديقي حتمًا.
أدخل غُرفتي أتأمّل ابنتيّ الصغيرتَين تنامان بسلامٍ وهدوء؛ هما بعض آثاري؛ يغلبني النّوم فأنام؛ على وقع أثري.