بات واضحاً أنَّ الحرب الروسية الأوكرانية ليس هدفها استئصال النازيين الجدد حسب الوصف الروسي وتحقيق استقلال الأقاليم الانفصالية في الشرق الأوكراني المحاذي لروسيا فقط، إنَّما كان هذا التحرك الروسي بمنزلة النقطة التي طفح بها الكيل بعد أن ملأه بوتين منذ توليه السلطة في روسيا.
الرئيس بوتين أعلن في المنتدى الاقتصادي الدولي في سان بطرسبرغ منتصف يونيو هذا العام عن بدء روسيا وضع قواعد النظام الدولي الجديد، في تحدٍ واضح للشرعية الدولية التي أسستها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، التي كان من ضمنها الاتحاد السوفيتي المنهار.
وبتوصيف أدق صرَّح وزير الخارجية الروسي لافروف بشكل علني عن رغبة بلاده بلي ذراع الدول الغربية التي تقودها الولايات المتحدة، متحدثاً عن هدف الغزو الروسي لأوكرانيا بقوله: “عمليتنا العسكرية الخاصة تهدف لوضع حدٍّ لتوسع الولايات المتحدة ونهجها المتهورين نحو الهيمنة الكاملة، مع بقية الدول الغربية الخاضعة لها، في الساحة الدولية” فهل تستطيع روسيا الوصول إلى ولادة نظام عالمي جديد من الخاصرة الأوكرانية؟
روسيا تجدد تأكيد رغبتها بإلغاء دخول المساعدات إلى سورية عبر الحدود
وانطلاقًا من الأحلام القيصرية والروح المشبعة بالانتقام لهزيمة الاتحاد السوفيتي على مرأى من عيون بوتين الذي كان عنصرًا في الاستخبارات الروسية، فقد سعى عندما صار رئيسًا منذ سنوات لاختبار المنظومة الغربية بقيادة واشنطن، وفي الوقت نفسه إظهار مدى هشاشتها، وذلك ضمن تحديات عسكرية وسياسية تحمل في طيَّاتها إشارات للكثير من الدول عن عودة الدب الروسي من جديد، وإمكانية فرض المواجهة مع المعسكر الغربي مرة أخرى.
وبتلافي أخطاء الماضي أعادت روسيا خلال العقدين الماضيين خصوصية نطاقها الجيوسياسي إلى حيِّز القرار الروسي من خلال عملياتها في الحرب الأرمينية الأذرية، والتدخل في كازخستان وجورجيا وأوكرانيا مؤخراً؛ ليكون بذلك العقد الأوراسي الذي رسمه الفيلسوف والمنظر السياسي الروسي (ألكسندر دوغين) قد وطَّده الرئيس بوتين بعيداً عن تعقيدات المركزية والفشل الاقتصادي الذي اتبعه الاتحاد السوفيتي سابقاً من خلال تمهيد الطريق لروسيا العظمى عبر دعم هذا الفضاء الحيوي والسيطرة على مقدراته وإدارتها عبر أنظمة و آليات سياسية و اقتصادية جديدة.
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هناِ
إنَّ بوتين ربط عجلة هذه السيطرة والقدرات بالسوق الأوربي صناعياً وتكنولوجياً وأمنياً، حيث باتت الآلة الأوربية تعتمد على مصادر الطاقة الروسية وامداداتها من الخام في مختلف الصناعات، وشرعت روسيا في عقد شراكات مع كبرى شركات التقنية الغربية، وباتت السيطرة الروسية سياسياً وأمنياً في الفضاء الأوراسي صمام أمان للاتحاد الأوربي مع تفاقم أزمة اللاجئين وانتشار الأوبئة وغير ذلك من المشكلات.
وبذلك تمكنت روسيا من ربط أهدافها بمصالح جيرانها، وباتت فكرة إطلاق النار على روسيا كمن يطلق النار على قدميه، وقد أثبتت الحرب الروسية – الأوكرانية ذلك من خلال ما تكابده أوروبا من تضخم وشلل في بعض قطاعاتها الاقتصادية نتيجة العقوبات التي فرضتها هي نفسها على روسيا.
فكيف سيكون الحال فيما لو أرادت روسيا معاقبة الغرب وقطع امدادات الطاقة والمواد الخام عن المستهلك الأوربي؟! وماهي آثار ذلك سياسياً واجتماعياً على حكومات الأحزاب الحاكمة في هذه الدول خصوصاً مع تساوي قيمة اليورو بالدولار في السوق العالمية وانتعاش الروبل الروسي مدعوماً بمخزونات الذهب وتحوله لعملة مدفوعات دولية في أسواق الطاقة والتجارة الدولية؟!
الحقيقة الواقعية اليوم هي وجود (روسيا العظمى) كما أرادها بوتين ويخشاها الغرب، التي غيَّرت في بنيتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لتكون أكثر مرونة في المواجهة وتأثيراً على الساحة من خلال جملة المتغيرات التي انطلقت منها روسيا على الصيد الداخلي والخارجي في بناء نفسها نحو معركة طويلة الأنفاس وطموحة الأهداف مع الدول الغربية، مستغلةً العديد من المعطيات والمتغيرات على الساحة الدولية في هذا السياق نناقشها في المقال القادم.