انتهى المونديال الاستثنائي، أول بطولة عالمية تنظم في الشرق الأوسط، في أرض العرب التقليدية القديمة، شبه جزيرة العرب التي خرجت منها القبائل العربية المسلمة لتنتشر في أصقاع الأرض، وتنشر دينها وقيمها وحضارتها العظيمة التي امتدت لقرون طويلة، وما تزالُ تمتد وتنتشر بفضل الإسلام على ضعف أهل تلك الحضارة.
سيذكر التاريخ هذه البطولة بكل ما فيها من جمال وإثارة ولعبٍ وإنجازات وجدل …، وستبقى بما قدمته علامة فارقة في تاريخ اللعبة وتاريخ العالم، فلقد غيّر كأس العالم في قطر 2022، الكثير، الكثيرَ جداً بالنسبة لنا كعرب ومسلمين ضاربون في جذور الشرق نحتفي به ويفخر بنا، وبالنسبة للعالم كلّه الذي تابع البطولة وشاهد اللعبة وما أمامها وما وراءها …
وأزعم أنه لا يسعني مقال واحد لذكر كل التفاصيل التي تميّز بها كأس العالم، والتي ستبقى في ذاكرة الشعوب جميعاً أجيالاً وحقباً متلاحقة، منذ أُطلقت صافرة البداية، حتّى أُسدل الستار بعد تتويج أبطال الكأس الغالية على محبي كرة القدم …، ولكنني سأحاول أن ألمّ شتات ما تجود به الذاكرة في هذه المقالة، وأترك للقرّاء وللكتّاب أن يسجلوا أيضاً ملاحظاتهم وتلك اللوحات التي ستبقى في ذاكرتهم من كأس العالم: …
البداية
لحظة البداية الفريدة لخصت رسالة الحضارة المسلمة والدين الإسلامي في إسقاط العولمة وتمجيد الاختلاف، والإصرار على الدأب والعمل وعدم الاستسلام، واحترام القدر، كل هذا رسمته صورة غانم المفتاح هو يتلو قوله تعالى “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم” هذه الآية تلخص نظرة الإسلام للاختلاف، وتدعو إلى احترامه والتفاعل بين البشر من خلاله، لا جعله سبباً للشقاق والحرب، وإنما للتنافس الإيجابي الذي يشبه كرة القدم، حيث تنتهي المباراة بفائز يفرح لفوزه، وخاسر يبتسم لخسارته، ومهما بلغ حزنه لا يمدّ يده لأخيه الإنسان لكي يؤذيه … ومن أدّى تلك الرسالة، هو غانم الشاب المعاق، الذي لم يرض أهله أن يقتلوه جنيناً، وإنما احترموا القدر وإرادة الله، فصار فيما بعد من أصحاب الهمم والتحديات أيقونة لبلده وللعالم بالعمل والدأب والإصرار، وهذا الدأب والاجتهاد هو ما فعلته قطر البلد الصغيرة، لكي تنجح باستضافة حدث عالمي كبير يتشوق العالم له كلّ أربع سنوات، غانم يشبه قطر في كل التفاصيل، وقطر عملت كغانم، وامتثلت لحضارتها وثقافتها بإصرار في هذه المناسبة الكبيرة.
اُفتتحت بعد ذلك منصة العرض، لتكون تطبيقاً عملياً للآية الكريمة، ولتمنح قطر مساحة وافية لمختلف الثقافات لكي تستعرض نفسها من خلال هذه المنصة، مع إصرار واضح على القيم والأصالة للثقافة العربية الإسلامية، التي لم تختزلها قطر بما هو قطري، وإنما قدمتها كهوية واسعة وانتماءٍ لقطر، فتقدمت الأم والأمّة من خلال أبنائها، وتراجعت قطر خطوة إلى الوراء لتدثّر بالعباءة العظيمة للأمة العربية الإسلامية …
سترون في حفل الافتتاح شيئاً غربياً وشيئاً شرقياً، سترون واحدة من أغنى دول العالم لا تصرّ على الإبهار التكنولوجي والاستعراض الصارخ للأجساد رجالاً ونساءً لكي ترضي غرائز الناس وتستقطب اهتمامهم، وإنما تصرّ على القيم والتقاليد، وعلى الاستعراض المتوازن المستمدّ من الهوية المشرقية لهذه الأرض، تريدُ أن تنفذ لأرواح الناس وقلوبهم وتبهرهم بجمالٍ من نوع مختلف، يلامس مشاعرهم قبل أن يلامس أجسادهم.
الأغنية الحلم، التي ستتحول كلماتها لحقيقة صارخة حتى آخر يوم في المونديال، فأغنية (نحن الحالمون) سارت بالحلم منذ انطلاق كأس العالم في قطر وتحقيق الحلم القطري والعربي بالاستضافة، مروراً بالنتائج المبهرة للمنتخبات العربية، ولمفاجآت النتائج في دور المجموعات على صعيد كل البلدان، فلم يحسم التأهل إلى الدور الثاني سوى فريقين من 32 فريقاً حتى الجولة الأخيرة من مباريات الدور الأول، ثم الإنجازات الفريدة للمغاربة، وتحقيق أحلام ملايين العرب والمسلمين ممن كانت قلوبهم معلقة بانتصارات المنتخب المغربي، وصولاً إلى تتويج الأرجنتين وتحقيق الحلم الغائب عن بلاد الفضة منذ 36 عاماً، وليتحقق أيضاً في النهاية حلم واحد من أساطير اللعبة بالكأس التي حاول معها مراراً دون فائدة، تحقق الحلم نهايةً في قطر ليكون ميسي بطلاً للعالم، ويستعيد فرح الأرجنتينيين بعد مارادونا.
الصافرة
مع بداية مشوار المونديال داخل وخارج الملاعب، لاحظ الناس التنظيم المميز والاهتمام بكل التفصيلات من قبل الدولة المضيفة، وبدأت قيم الحضارة العربية الإسلامية بالظهور تباعاً ليرى الجمهور صورة مختلفة لهذا الشرق الذي عمل الغرب على تشويهه دائماً، لامس الناس الكرم العربي، وأهمية الضيافة عند العرب المسلمين، فلم يكن كأس العالم بالنسبة إليهم استثماراً أعمى يلاحقون فيه الربح فحسب، كما تفعل الدول المستضيفة عادةً، ولم تكن الدولة هي من تؤمن الخدمات من أجل سمعتها فقط، وإنّما الناس، القطريون، الذين احتفوا بضيوفهم كما يليق بالعربي المسلم، فدائماً ما كنت ترى القطريين يوزعون الطعام والشراب على الجماهير دون ثمن، إرضاء لواجب الضيافة وقيم الكرم والجود، واستضاف القطريون في بيوتهم بعضاً من الجماهير التي لم تعد تستطيع دفع كلفة الإقامة كما أبرزت المقاطع المصورة، في مشاهد لم يعتد عليها أبناء الثقافات التي تأسست على المنفعة والربح والمادة. كما رأت الجماهير جمالية الحجاب واللباس العربي الخليجي، وإنه لا يدلّ على التخلّف كما حاول الإعلام الغربي تصويره دائماً، وإنما هو أفضل لباس يناسب أجواء تلك البلاد، وهو يمثل ثقافة وأصالةَ البلد المضيف، فجربوه، وتمسك به بعضهم طيلة أيام المونديال.
استمعت الجماهير للأذان خمس مرات في اليوم، وشاهدت كيف يهرع المسلمون بإيمان عميق لتلبية نداء ربهم إلى الصلاة في ساعات الفجر الأولى، وفي الليل وفي أوقات النهار، … رأت الجماهير احترام المسلم لدينه وروحه، حيث افتقدت هي الكثير من هذا في بلدانها.
لم يبدو العربي المسلم قاسياً جلفاً صحراوياً فظاً كما في الصورة النمطيّة، وإنما ودوداً متسامحاً مضيافاً محباً للآخر، كريماً جواداً يدعو لدينه بالمودة والحب، فاستمع الناس للدعوة وعاشوا تجربتها، وحملوا خياراتهم فيما بعد بحرية تامة، كما يليق بالإسلام.
بين الشوطين .. استراحة
رغم إصرار البعض على عدم احترام ثقافة البلد المضيف ودينه وتقاليده، ودعم الشذوذ والفراغ والتعالي على الناس، إلا أنّ القدر في المونديال لم يمنح الوقت الكثير لهؤلاء لكي يستمروا بحماقاتهم وتفاهاتهم وتعاليهم، فغادروا مبكراً جداً، وغادرت معهم تلك الصورة الغريبة عن القيم والأخلاق، وعدم احترام الآخر والتعالي على الإنسانية والإنسان، وعادت الأجواء في قطر دافئة جميلة يملؤها الحب والتفاعل والرقي.
اقرأ أيضاً: في مديح المونديال (التجربة الحضارية)
متابعة
برزت الأم والأسرة كقيمة رائعة الجمال في كل احتفال بعد نصرٍ مغربي، صورة مليئة بالوفاء، كانت تُذرف فيها دموع الأمهات اللاتي هجرهنّ ابناؤهن في الحضارة الأخرى، فالحياة هناك لا تتمسك بالأسرة ولا بالجماعة وإنما قائمة على الفرد والفردانية.
ظهرت الأم المسلمة بحجابها الجميل والبسيط وعفويتها وفطريتها وكأنها صاحبة الإنجاز الحقيقي، العمود الراسخ الذي يحمل الأبناء ويحملونه، مصدر الفخر والاعتزاز للأسرة المسلمة ومصدر الرضى والسعادة، وكيف لا، وهذه الثقافة المسلمة تضع مصير الإنسان وجنته التي يحلم بها تحت أقدام الأم، ربما هذا ما لا يعرفه الغرب عن خلفيّة تلك الصور التي اتحفنا بها المغاربة، والتي تمتثل قولَ الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه يوصيه بأمّه “الزم قدميها فثمّ الجنّة” وقوله لآخر “أمك ثم أمّك ثم أمك”.
لم تصدر تلك الصور من فراغ العاطفة، وإنّما من عمق أمر الله ورسوله وتعاليم هذا الدين وواجب الحب والرحمة “«وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا» في ثمانية آيات للسائلين.
ثم برزت صورة المرأة المحجبة كتعبير عن كثرة أبناء هذا الدين وهذه الحضارة، وليس ما حاولت السياسة والإعلام دائماً تصديره من خلال الشاشات والمنصات على أن أكثر نساء العرب والمسلمين دون حجاب، فلا تكاد تلمح امرأة مسلمة إلا وهي معتزة بحجابها متمسكة به رغم كل ما تعانيه من حرارة الأجواء وازدراء العولمة.
منع الكحول كان له وقع إيجابيٌ عند الكثير من المدمنين، الذين لاحظوا اتزانهم، ولاحظوا أن جمال اللعبة في أن تعيش أجواءها لا أن تُغيّب عقلك في أمتع اللحظات، استمتعت النساء أيضاً بهذه الخطوة، فلا متحرشين بسبب فقدان العقل، لا تصرفات هوجاء، لا حوادث مجنونة، بدا كل شيءٍ هادئاً وجميلاً بدون خمر، وبدون سُكر.
النظافة كانت علامة فارقة عند الغربيين، النظافة الشخصية، التي لم يهتموا بها، عندما حاولوا تزيين كل شيء وتجميل كل شيء من الخارج فقط، فكانت الحمامات واستخدام الشطافات تجربة تحدّث عنها الكثير من الحاضرين إلى قطر، والنظافة ليست تقليداً فحسب، ولكنها دين عند أهل هذه الحضارة يتطهرون لكل صلاة ويتطيبون ويلبسون أحسن الثياب، ممّا ينعكس على شكلهم الخارجي وأرواحهم في ذات الوقت.
أشياء كثيرة لا أحب أن أختزل تعدادها، ولا يتسع مقام المقالة لها كما أسلفت، لقد كان التغيير كبيراً وعظيماً بحجم الحدث العالمي وأكبر … عبّرت عنه حتى النهاية تلك اللقطة الإيقونية لميسي وهو يرفع كأس العالم مرتدياً “البشت” العربي، متوَّجاً على الطريقة العربية، يخلع عليه أمير البلاد عباءة يستحقها فوزه الكبير، ويعلن للعالم أن الكأس كانت على أرض عربية في الصورة التي سيحتفظ بها الملايين حول العالم لتلك اللحظة الحاسمة.
النهاية
لم تخجل قطر من ثقافتها، ولم تحاول التجمّل بمساحيق لا تنتمي لحضارتها أمام العالم في مناسبة عالمية، وإنما كانت مصرّة على إظهار نفسها ومرجعيّتها وهويتها وانتمائها وأدقّ تفاصيل التقاليد التي تمثلها حتى آخر لحظة.
كانت قطر شديدة الفخر والاعتزاز بهذه الهوية والتقاليد وبالأمّة التي تنتمي إليها، فبدت بثوبها الأصيل وبملامحها السمراء وبعفويتها المفرطة أكثر جمالاً وإشراقاً مما تخيّل الناس، وأكثر صدقاً ومروءة ولطفاً ممّا يمكن أن يعرفوه في بلدانهم، نجحت قطر وفازت بكأس العالم منذ اللحظة الأولى، وتنافست الفرق المختلفة على حمل الكأس مع قطر لا بدونها …