الانتخابات.. تجربة الثورات الفاشلة

أحمد وديع العبسي

انتهت الانتخابات في مختلف أرجاء الجغرافية السورية نظامًا ومعارضة، وهدأت حولها الآراء والتحليلات والسخرية أيضًا، وربما صار الوقت مناسبًا ليتحدث المرء حول هذه التجربة بـ (كلمتين نضاف).

في الثورات وأثناء صناعة التغيير يحتاج الثوار قدرًا كبيرًا من الثبات والذاكرة، والعمل المتواصل، والبناء التراكمي، والعلاقات القوية مع الحلفاء والجوار، وهذا أمر لا يتم عبر تغيير القيادة السياسية كل سنة تقريبًا أو سنتين، ولا يتم بإيجاد وسائل ممارسة الديمقراطية في التجمعات المحررة قبل تهيئة الأرضية المناسبة لها وتحقيق قدر من الاستقرار يسمح بوجود منافسة حقيقية تضمن مصالح الناس، …

فما يحدث بسبب الانتخابات هو التالي:

على الصعيد السياسي، بسبب سهولة التغيير في قمة الهرم السياسي، تسعى الدول لإيصال ممثليها وضمان مصالحها عند جمهور الثورة، وبذلك يصبح التنافس على إرضاء الدول لا على تحقيق مصالح الناس، ويتم إفراغ القيادة السياسية من أي معنى؛ لأنها تتغير كل سنة أو سنتين على الأكثر قبل أن تستطيع توطيد علاقتها مع المحيط فضلاً عن البدء بالإنجاز والعمل، والأهم هو إلغاء الذاكرة التاريخية والتراكم الوجداني والفعلي الذي يغذي الإنجاز، لأن كل قادم لا ينظر إلى الماضي كجزء من إنجازه، بل على العكس ربما يسعى لهدمه؛ لأنه لا يمثل مصالح الدولة التي أتت به.

بينما في الطرف المقابل قيادة مركزية لم تتغير، تحمل في ذاكرتها كل مراحل المعركة وتنفذ استراتيجية بعيدة المدى ولديها ما يكفي من الوقت والموارد.

أما على الصعيد الإداري تقدم التجربة الانتخابية (ثوارًا) دون أي خبرات للمنافسة، يسيطر إثر ذلك الصراخ والصوت المرتفع والفوضى على الحياة الإدارية. التي لا تنجح عموماً في توفير الخدمات للناس إلا في حيز ضيق جدًا، ساهمت بنجاحه مقومات لا تستند لخبرة من تصدى لهذه المناصب، …

كما لا يمكن أن تكون المنافسة عادلة في بيئات مضطربة، ولا الهيئات الناخبة تمثل الناس بشكل شرعي في أرض النزوح والتهجير والمؤسسات ذات الصلة، لكن حمى الديمقراطية والتعبير الوحيد الذي نعرفه عنها (الانتخاب)، جعل هذه المسرحيات (الانتخابية) تنتشر وتصبح مطلباً (ثورياً) ويصفق لها الجميع أثناء غرق سفينتهم التي صار يقودها (بحارة) لم يشاهدوا البحر إلا مرات قليلة في التلفاز وعلى وسائل التواصل الاجتماعي.

الأمر الأكثر فظاعة هو انتقال هذه الحمى الانتخابية لكل مفاصل الحياة والعمل، فصار كل رأي وعمل في الشأن العام يحتاج تصويتًا وانتخابًا، دون أدنى فهم للمعضلة التي هي محل النقاش، أو طبيعة المؤسسة التي تحتاج مركزًا قياديًا معيّنًا.

وبنظرة سريعة إلى التجارب الثورية تاريخيًا، نرى إن الديمقراطية لم تكن أداة الثورة، بل نتيجة لها، وإن قادة النضال كانوا ملهمي الناس طوال فترة الثورة، ولم تغيرهم الانتخابات في أوج نصرهم ولا عند انكسارهم، إنما كانوا يتغيرون بقرار مجلس القيادة نفسها، (لمرات قليلة ومحدودة) عندما يفشلون فشلاً ذريعًا لا يمكن إصلاحه، أو عندما يستشهدون.

وإذا أخذنا نظرة واسعة من حولنا سنرى أن جميع التجارب التي توفرت فيها قيادة مركزية أثناء الصراع، كانت أكثر نجاحًا وانجازًا واستقرارًا من التجربة الفوضوية التي تقودها المعارضة المحبّة للانتخابات والتغيير.

الانتخابات هي لعنة الفضيلة في أزمنة الصراع، وهي اللغة التي تسمح بالصراع الداخلي قبل أن يتحقق النصر ضد العدو، وهي الخنجر الذي تستخدمه الثورة للانتحار بدلاً من أن يكون أداة لمواجهة الأعداء

 

أحمد وديع العبسيالانتخاباتالانتخابات السوريةالانتخابات والثورةالثورات الفاشلةالجغرافية السوريةالمعارضةسورياصناعة التغيير