الأهداف في الطريق

أحمد وديع العبسي

يقول الجاحظ: “المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي، البدوي والقروي إنما الشأن في تخيّر الألفاظ”

أراد الجاحظ من هذه المقولة كما شرحها البلاغيون أن المعنى ليس المراد بالصنعة، فكلنا قادرون على التعبير عن المعاني، ولكن البلاغة والإتقان هي في اختيار الألفاظ التي تختزل المعاني وتظهرها في أبرع صورة وأكثرها بياناً ووضوحاً وإيجازاً وجمالاً وتعبيراً، إذن فأصل الشيء لا تظهره مادته، وإنما طريقة تكوّنه، وتشكلّه وانتفاع الناس به، … ويقاس على ذلك أيضاً أن أهمية المعاني والغايات لا تكمن فقط في ذاتها، وإنما في الوسائل المفضية إليها، لذلك لم تبرر الغايات الوسائل في ثقافتنا، لأن الوسائل هي الحامل الأساسي الذي يرسم شكل الغايات ويُنبئُ بمآلاتها

فلا يُتوصل إلى العدالة بالطغيان ولا إلا الحرية بالإقصاء والتعالي، ولا إلى الصدقة بالربا، ولا إلى الإسلام بالقمع وإنما بالدعوة والرفق …

على أن المعاني ومادة الأشياء وأصلها مهمّة جداً في ثقافتنا ايضاُ، ولكنها تتكامل مع الشكل المفضي إليها، فلا هي تقوم بذاتها ولا الوسيلة أو الشكل يقوم بذاته، فلا تُصلح الألفاظ البديعة المعاني السيئة، ولا تصلح الأعمال الصالحة الغايات الخبيثة، فالصدقة مثلاً يسقطها الرياء، والعدالة لا تصحّ مع الرشوة …

والأهداف كذلك كالمعاني، ولكنها أكثر التصاقاً بالطريق الذي عبّر عنه الجاحظ، فهي مطروحة فيه، وملتصقة به، ولا يقوم الطريق إلا بها. فهي تفضي إلى ما وراءها وبعضها يؤدي إلى آخر، حتى ينتهي العمر وينتهي معه المسير الطويل على الطريق بانتظار الغاية الآخرة التي لا مسير بعدها ولا طريق ولا سعي ولا هدف. فأما النجاة، وإمّا الشقاء.

ولكي تحقق أهدافك لا بدّ أن تكون عينك على الطريق وليس على الأهداف فقط، حتى لا تتعثر فتقع فتعجز عن المتابعة، ثمّ إن النظر للأهداف فقط يورث التمني، وأحلام اليقظة، أمّا العمل والجدّ والسعي ومعرفة التحديات والصعوبات بالانتباه للطريق، فهي ما يورث العزيمة والحكمة والدأب والاجتهاد.

وكل أهدافنا في هذه الحياة الدنيا هي في السعي لا في الوصول، في إيجاد الطريق وتوسعته وامتداده، لا في نهايته، فالسعي هو غاية الحياة الدنيا، وهو مناط التكليف، والوصول غاية ليست الحياة محلها، لكنها ما يرسم محددات الطريق وآفاقه ومعالمه، وجميع الأهداف في هذه الحياة غايتها فتح آفاق السعي ودروبه، حتى نصل للآخرة.

الطريق يمتد ولا ينتهي .. الطريق هو الهدف .. نحن نسير على الطريق من أجل أن نصنعه لا من أجل أن ننهيه، فالأجيال المتلاحقة ستسير عليه وتصنع الخطوات لمن بعدها، فهو بداية الصراط الذي سنسلكه للوصول إلى الغايات العظيمة في رضى الله ورضوانه.

إذاً فجميع الأهداف الدنيوية متعلقة بغايات كبرى، وليست هي ذاتها الهدف، لذلك فهي تمثل امتداد الطريق وكفاءة السعي وعزيمة المواصلة، ولا بدّ لنا من التعلق بها والعمل من أجل تحقيقها بجد، وإلا سينقطع بنا الدرب، وإهمالها والتعلق فقط بالغايات دون إدراك للطريق والدأب فيه، يجعلنا في غفلة وفوضى لأن كل عمل يمكنك تعليقه بالغاية حتى ولو لم يرسم لك سعياً جديداً ودرباً مفتوحاً.

عليك أن تسأل نفسك عند تحديد أهدافك عن مكانها في طريقك وعن قدرتها على حملك إلى اهداف أكبر، وليس عن تحقيقها فحسب، لذلك كل هدف تفضي نهايته إليه لا يعتد به. … والسلام

أحمد وديع العبسيأهمية الغاياتالأهدافالدنيا والآخرةالسعيالشكل والمضمونالصراطالغاية والوسيلةاللفظ والمعنىصناعة التغيير