خطَونا ولم يشد على أيدينا أحد! .. لم نأبه لهذا، ولم نتّكئ يوماً على عاتق أحد! كنا نسقطُ في الألم دُفعةً واحدة .. والجميع من حولنا يشجبون، نشدُّ أيدي الفراغ وتشُدّنا.. وهم يلطمون ويُدينون ويستنكرون، نخرج من فاجعةٍ لندخلَ بأكبرَ منها.. العالم يعيش بكل ألوان الحياة، ونحن نموت بكل أشكال الموت.
في الحرب .. تصبح المشاعر الإنسانية شديدة الخصوبة، تحسُّ اقترابها من الموت، وتتحسّس طريقها الذي تسلكه على الحواف، كل شيء عرضة للانزلاق والتلاشي في ذلك الأتون الكبير الذي يضطرم بالنهايات، وعنه فقط الكلّ ينتظر بدايةً ما .. يوم يخمد الأجيج، وينقشع دخانه.
للمشاعر في الحرب رغبة كبيرة بالتوالد، لا يسعها الانتظار طويلاً، لا مكان للأسرار ولا للمسافات الشهية التي تسبق البوح، كل شيء في استعجال كبير، كل شيء يريد أن يحجز مقعده على منصة الذكريات قبل أن يتلاشى إلى اللاشيء واللاذاكرة، فيستحيل إلى عدمٍ مخيف، ويتجاوزه التاريخ الذي يبقينا على قيد الحياة بعيداً عن رحى الحرب التي تطحننا كلّ يوم، فننجوا، ويستحيل سوانا إلى تراب، وينجون ونصير نحن التراب يوماً ما.
نبوح بالحب، نسرع لإقامة العلاقات، ننهي خلافاتنا البسيطة، تكثر الأعراس والزيجات، وكأننا لا نريد أن نفنى، نريد أن نتكاثر بسرعة من أجل أن نهزم الحرب والموت … ونبقى …
وفي غفلة منّا، نرحل سريعاً، يكثر اليتامى، تتوشح الحبيبات بالسواد، تُكبّل المآتم أعين الأمهات، تترمل الذكريات الجميلة، ونندب حظنا البائس وابتساماتنا الوليدة.
النساء هنا يمزّقن الثياب من مرارة الفقد، الرجال يذرفون الدماء دموعاً، قهراً وذلاً وفقراً … كل شيء يتجرع خرابه الكبير، الشباب يتسابقون للموت هرباً من عارهم الذي سيلاحقهم إن عاشوا على أنقاض كرامتهم، والأطفال يصرخون، يموتون، رؤوسهم تتدحرج في كل مكان بين الأنقاض، يشتَمّون أحياناً غازات سامة تجعلهم يختنقون في سكينة وهدوء.
مؤلمة لعبة الرحى تلك، تدور على طرفيها بشدة، وبينما تطحننا تطحن نفسها بقسوة وكبرياء، إن فكرة الهزيمة هي من يصنع الرحى، لا يمكن أن تسمح لأحدٍ بأن يهزمك حتى لو اضررت لطحن نفسك معه.
في الحروب تتعلم أن تخترع الضحكات، أن تبدأ باجترارها لأي شيء، تقهقه بصوت مرتفع ولا تمل من احتراف النسيان وتصرخ ضاحكاً، نعم تصرخ .. لا يوجد وسيلة غير الصراخ هنا عليك أن تخرج ما في قلبك قبل أن يقتلك.
يعتصر الألم كل شيء، نربي الثأر كطفل مدلل، يتملكنا الحقد، وتعشش في ثنايانا الكراهية، ويصبح الانتقام واجباً، والتراجع خيانة.
يصبح الحب أسطورة فحسب، تحكيها الجدّات للصغار، ويغامرها المقامرون الذين يعشقون الأساطير، ويرونها سهلة التحقق، يكرهون استسلامهم للحرب ومقصلتها، فيثورون تجاه الحبّ، يندفعون في طرقاته الكثيرة غير آبهين بشكل النهاية، كل ما يهمهم ابتسامة وأمل وذكرى، وشيء يستحق أن يبذلوا أرواحهم في سبيله، أو يعيشون من أجله.
يكبر الصغار وقد نسوا درب من سبقهم، من بقي منهم في أتون الحرب لا شيء يشغله سوى الثأر، وقد وجد نفسه محاطاً بالقتلة من كل جانب، الوصايا تتآكله، والوجوه الواجمة لا ترحم خلوده للراحة، عليه أن يكمل طريقاً لم يبدأه هو، وإنما قيل له: إنه طريق قد عُبّد بالدماء وعليه أن يكمله بدمه أو أن يفتح باباً من نور تخرج منه أرواح من سبقوه وتتخلص من قيدها الذي يستصرخ الباقين للحرية والانتقام.
صخب وضجيج لا يهدأ، يهاجر من يهاجر، يترك الديار وأهلها وحربها وثأرها، والموتى الذين يستصرخونه بوصاياهم علّه يجد ما يكمل به حياته القصيرة، يلهو ويعبث آملاً في أن ينسى، أن يغير روحه وهويته، يقف له أحدهم على نافذة ما، يصرخ بوجهه: عُد خطواتك للوراء إنك من وطن الموتى ولا تأشيرة لك لكي تكمل الحياة.
يجثم على ركبتيه، تتحرك في رأسه كل الصور القديمة، يلعن كل ما يخطر على البال، يركب البحر، يغرق بعضه، وينجوا بعضه الآخر، يعيش الناجون على موائد الموتى، يحكون قصص الأمواج التي حاربتهم في عرض البحر والوداعات الأخيرة، يخبؤون خنجراً وياسمينة، ويذهبون كلٌ للقدر الذي سيلاحقه.
سنتجه صوب قدرنا بعزيمة مطلقة، لأنه خيارنا الوحيد في هذه الحياة، حتى عندما نقرر أن نخوض أسطورة الحبّ لن يكون ذلك سهلاً، سنعشق نعم، ولكننا سنكره تلك التجربة التي علينا خوضها مقابل احتمالات الموت، والحزن والفجيعة، ولكنها ستكون أفضل من الفناء، وكأن الذكريات هي كل ما نعيش عليه ومن أجله.