الثورة والاستحمار

جاد الحق

0 466

 

ألقى المفكر الإيراني (علي شريعتي) يومًا محاضرة بطهران أيام حكم الشاه بعنوان: “النباهة والاستحمار”، حُوِّلت لاحقًا لكتاب يمكن اختصار أهم أفكاره بقولنا: إن الدول العالمية المُستَعمِرَة، أو الحكومات المستبدة، تحاول إلهاء المجتمعات المُحتَلّة عن القضية الأهم لها وهي النضال للتحرر، بقضايا أخرى أقل أهمية، حتى وإن كانت نبيلة في ذاتها، وتحقق بعضًا من مصلحة المجتمع المقهور، وتُصَادِم ظاهريًا بعضًا من مشاريع المحتل أو المستبد، إلا أنها حقيقة أداة إلهاء وتشويش عن القضية الأهم (معركة التحرر)، وطالما أنها تُشغِل عنها، حتى وإن كانت شريفة في ذاتها ونظيفة، فهي لا تعدو كونها أداة استحمار للشعب تبقيه ضمن الباحة المسموح له بها التحرك تحت عين المستَعمِر أو المستَبِد وإشرافه.

لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا

ما جعلني أكتب عن هذه الفكرة هو ملاحظتها تتكرر كثيرًا بأشكال عديدة، حيث يبدو أن هناك أجسامًا وشخصيات نذرت نفسها لاستحمار الثورة وثوارها، وذلك عبر إشغال الجمهور بأمور جانبية عن المعارك الحقيقية المهمة، وقد أثبتت هذه التحركات فعاليتها، حيث نجحت بالتلبيس على الناس بماهية الثورة وأهدافها، وما يجب فعله لانتصارها.

أمثلة على استحمار الثورة:

-الأشخاص والهيئات المغرقون بالتنظير الفكري الجاف للثورة، دون محاولة تطبيق نظرياتهم على الواقع الأليم، ثم تعديلها بما يصلح هذا الواقع.

– المبالغة بالمظاهر الاحتفالية والجماهيرية المصطنعة للثورة ضمن المحرر، كما يُسمى بالسهرات الثورية، أو المظاهرات المطالبة بإسقاط الأسد، وأذكِّر أن كلامي خاص بالمحرر.

-سيل المنشورات على وسائل التواصل المليئة فقط بالمزاودة والسباب، وذكر المزايا الشخصية، وتضخيم التضحيات الخاصة.

كل ظاهرة ممَّا سبق على افتراض فضلها التام، إلا أنها تغطي على ما هو أهم منها، وهو التنظير الفكري الجاف، والاستعجال بفتح المعارك الفلسفية المبكرة، والطروحات المثالية الأقرب للخيال منها للواقع، وتخلق حالة من الازدواجية عند الثائر أو المقيم بالمحرر، خاصة في ظل انشغاله اليومي المهلك في سبيل تأمين ضروريات عيشه وبقائه، وقد تسهم في تحييده عن معركة التحرير، كنتيجة طبيعية للصدمات التي عاشها بسبب الهوّة الشاسعة بين أفكاره وواقعه.

السهرات الثورية المبتذلة، والمظاهرات الباهتة ضد النظام في المحرر تبدد الطاقات والموارد عمَّا هو أهم للمحرر وأنفع لساكنيه، من تحركات مدنية مطلبية تهتم بزيادة الأمن، وتحسين الخدمات، وترشيد العلاقة بالحليف التركي.

منشورات السباب والمزاودة تضيع الوقت، وتستنزف الطاقة بصراعات وهمية لا تفيد إلا بنشر الضغينة والبغضاء والتفرقة، وتلهي عمَّا هو أهم منها من المحتوى النافع والمفيد.

 

جميع ما سبق، وقد يكون هناك المزيد، يندرج كله تحت بند (استحمار الثورة)، وحرفها عن هدفها الرئيس، ألا وهو معركة التحرير (بالمفهوم الشامل وليس العسكري فقط) من نظام الأسد الطائفي الأقلوي، وشركائه من المحتلين الخارجيين، إلى ملهيات أقل أهمية حتى ولو فرضنا سمو غايتها.

اقرأ أيضاً:  المسابقات والجوائز.. طرق ترويجية تعتمدها الشركات التجارية في المناطق المحررة

جزء كبير من المنخرطين باستحمار الثورة يفعلونه دون قصد نتيجة قلة الوعي، وليس لعمالة، وقد يكون دافعهم لذلك أسباب عاطفية، أو ردات فعل شعورية على التجربة المرة للشعب السوري، في ظل احتلال الأسد والثورة عليه، لكن ذلك مبرر لم يعدُّ مقبولاً بعد كل هذه السنوات، إذ نحتاج حصر كل طاقتنا في معركة تحرير متشعبة المسارات (عسكرية، سياسية، حقوقية، مجتمعية، اقتصادية، تربوية….) تسقط النظام الطائفي الأقلوي وأنصاره من الاحتلالات الأجنبية الغازية، وتبني بالتوازي النموذج الأفضل من الدولة التي يستحقها المواطن السوري، والقائمة على قيم الثورة الرئيسة كالكرامة والحرية والعدل، خاصة لو علمنا أن الانشغال بالمهم عن الأهم، وبالأقل عن الأكثر، وإن كان خيرًا، إلا أنه قد يفتح علينا أبوابًا للشر ما كنا نتوقعها.

وأختم بما كتبه ابن القيم في كتابه بدائع الفوائد عن الفكرة نفسها، في تصوير دهاء الشيطان في معركته الطويلة لغواية الإنسان، عبر إشغاله بالعمل المفضول عن الفاضل، ليفوته الثواب الأعلى، بالأدنى، حيث يقول:

“ولم يصل علمه إلى أن الشيطان يأمر بسبعين بابًا من أبواب الخير، إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر وإما ليفوِّت بها خيرًا عظيمًا من تلك السبعين بابًا وأجل وأفضل.”

 

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط