الحركية والحيوية، استدامة التغيير بالقيم

أحمد وديع العبسي

0 2٬623

في عملية التغيير لا يمكن إعادة إنتاج الموروث أو التراث بسهولة، والقيم جزء أساسي من هذا الموروث؛ لأنه مختزن في الذاكرة الاجتماعية بشكل واضح جدًا يصعب معه تقديم أشكال جديدة له، وغالبًا ما يُفسَّر أي تقديم جديد على أنه (نفاق) أو اعتداء على الهوية، لذلك يعمل الغزو الثقافي للمجتمعات عادة على تغيير القيم برمتها، وخلق حوامل ثقافية جديدة تتبع الثقافة الغازية، يترافق مع جهد كبير في إعادة تعريف القيم وتشويه مفهوما الأصيل.

واحدة من أهم حوامل القيم التي تحدثنا عن أهميتها في عمليات التغيير الكبرى في المقال السابق، هي حيوية هذه القيم وقابليتها لصناعة الأفعال، وذلك لا يتم بما ذكرناه سابقًا، إنما عن طريق تجديد الخطاب القيمي، هذا التجديد لا يعيد تعريف القيم ويغير جوهرها الأساسي، لكن يخرجها من حالتها الساكنة كمعانٍ مجردة، ويعيد موضعتها ضمن سياقات التغيير الاجتماعية والسياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية و …، فهو إذن يُفسر القيم في السياق الجديد، وفي الأنساق المعرفية الجديدة ولا يعيد إنتاجها.

لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا

بتحديد أكثر، الخطاب القيمي يتحدث عن القيم في السياق الذي نشأت به، واستمدت معناها في الذاكرة المجتمعية منه، ثم يتحدث عن انعكاس هذا السياق في الواقع، وبالتالي تموضع القيم وتفسيرها في السياق الجديد، ويجب الحذر هنا من عدم الوقوع في إعادة التعريف وتغيير الجذور أو الأصول المعرفية التي تستند إليها القيم في معانيها اللغوية والاصطلاحية.

فالحرية مثلاً، التي تعني في الموروث اختيار الإنسان بمحض إرادته في كل شيء وفق ضوابط الشريعة، لن يتغير معناها الحالي بالتخلي عن هذه الضوابط، لكن يجب أن يُعاد شرحها في الأشكال الجديدة من هذه الضوابط التي ظهرت مع تغيُّر الحياة.

وبالإضافة إلى حيوية القيم ومرونتها، لا بدّ من التركيز على حركيّتها، أو بمعنى آخر على قدرتها لتكون محركات للفعل، فلا ينبغي أن يتم إعادة شرح الأشكال الجديدة للضوابط في المثال السابق بشكل يجعل كل خيار حرّ يقع في دائرة الحرام، أو المحظور، على العكس تمامًا يجب البحث عن توسيع الفضاء الحيوي الذي يسمح بمساحات تحرك أكبر تحت سقف القيم، وليس بمساحات تحرك محدود، وإلا فسينصرف الناس عن التغيير وإرادته.

وهذا لا بدّ أن يتدرب عليه جيدًا من يريدون صنع التغيير، لأنني لن أستطيع تحريك الشارع ما لم أعبّر عنه بشكل واضح فكريًا وثقافيًا، وفي جذر الفكر والثقافة تقع القيم كحوامل مرنة، تستمد قوتها من المبادئ الثابتة العقدية التي يؤمِن بها المجموع.

وهنا يجب التنبيه إلى أن ما ينطبق على القيم لا ينطبق على المبادئ، فهي أساسات راسخة، غير قابلة للتعديل ولا للتغيير؛ لأنها تعبِّر عن الهوية والانتماء بشكل مفصلي، وأي تغيير يعني العبث بالحضارة برمتها.

أحمد أبو الغيط يناقش تطورات الأوضاع في سورية مع الائتلاف الوطني

يجب أن يكون الوقوف على المبادئ حاسمًا، كما يجب التنبه لعدم جعل الأدوات أو آليات التغيير جزءًا من هذه المبادئ، كما يحدث معنا اليوم في الثورة عندما تحولت إلى أحد الثوابت وإلى جزء من الهوية والانتماء، وهي مجرد أداة للتغيير لا أكثر، فالأدوات لا يجب أن تكون يومًا من الثوابت، وتغييرها هو تكتيك المعركة، والذين يجعلون من الأدوات ثوابت ويتمترسون خلفها، هؤلاء يتمترسون خلف السيوف في مواجهة المدافع، بانتظار أن تحيلهم القذائف إلى رمادٍ يمسك مقابض لا شفرات لها.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط