المرجعية والهوية وتحديّات الثقافة والانتماء (الشباب والمرأة في الواجهة)

أحمد وديع العبسي

يبدو أن التنظيمات الشبابية صارت من أهم المجالات التي يحاول الجميع الاستثمار بها، وعندما نتحدث عن الجميع فإننا نقصد بهم (منظمات المجتمع المدني، والتيارات العسكرية والسياسية، والمجتمعية الحركية)، إلى جانب عدد كبير من المنظمات التي تعمل لمصلحة الدول الإقليمية، أو الدول صاحبة النفوذ في سورية.

إن ازدياد النشاطات بما يخص الشباب يشير إلى أن حلاً قادمًا للمشكلة السورية قد صار قريبًا، وإن جميع الفاعلين في سورية يبحثون عن وجود ثقل على الأرض ينعكس في الحاضنة الشبابية، وفي تمكين الفكر الذي يحملونه داخل هذه الحاضنة من خلال عدد كبير من المشاريع التي تحمل في داخلها تدريبات وورشات ذات صبغة فكرية وإيديولوجية وتنظيمية للشباب والشابات.

وفي هذا النطاق أيضًا يوجد استهداف منظَّم للمرأة وحراكها في الداخل، ودعم لمختلف المشاريع التي تعزز التيارات النسوية في الداخل السوري سواء في المناطق التي يسيطر عليها النظام وحلفاؤه، أو تلك التي تقع تحت سيطرة المعارضة وحلفائها. 

 

التنظيم الشبابي والأشكال المبسطة 

إن هذا الواقع يفرض على الشباب تحديًا كبيرًا للمحافظة على استقلاليتهم ووعيهم بقضيتهم وقرارهم ووطنيتهم بعيدًا عن أي مشاريع لا تمثل الحرية التي ناضلوا في سبيلها أو المرجعية التي ينتمون إليها في بُعديها الثقافي والعقائدي، والتي شكّلت مع مرور الزمن الهوية السورية لقاطني هذه البلاد.

إن أهم ما يمكن فعله في هذه الأوقات هو أن يبدأ الشباب بتنظيم أنفسهم من خلال أطر أفقية سهلة الإدارة بعيدًا عن الهيكليات التنظيمية المرهقة، التي تحتاج ممكنات كبيرة وتفرغًا وظيفيًا يجعل من السهل السيطرة عليها من قبل من يملكون التمويل اللازم لصناعة هذه الممكنات، ويحوّل الحراك الشبابي لحراك وظيفي متعلق بالمعيشة أكثر ممَّا يتعلق بالأهداف الوطنية الجامعة والحرية، وبذلك يسهل السيطرة على هذا الحراك وخلق الصدام داخله من خلال التباين الإيديولوجي الذي ستنتجه إليه هذه التيارات المختلفة، وبذلك إمّا أن تتم السيطرة عليه أو أن يتم تفريغ الطاقات الشبابية في الصراعات الداخلية التي تُدمِّر الأوطان بدلاً من بنائها.

وإن أول المؤسسات التي يجب أن تحتضن هذا التنظيم هي المؤسسات التي يقوم الشباب أنفسهم ببنائها بجهود تطوعية خالصة (كالنقابات، واتحادات الطلبة، والروابط الشبابية المختلفة).

يجب أن يبدأ الشباب في التجمهر والتجمع وتحديد ما يريدونه بأنفسهم، قبل أن تُطرح عليهم برامج جاهزة تجعل منهم آلات لصناعة أمجاد الآخرين، ويجب أن يكونوا على قدر كافٍ من الوعي والبحث عن التوعية في قضاياهم الأساسية قبل أن يتحولوا للكفاح في سبيل قضايا الآخرين، وإلا فإن جهد عشر سنوات، وسيلًا كبيرًا من التضحيات والدماء سيتم هدرها بدون فائدة، ولمصلحة كيانات أخرى لا تمثل الوطن الذي نحلم به.

المرأة وتحديات السياسة والمجتمع 

يبدو أن التجمعات والمنظمات النسائية والتيارات التي تهتم بالمرأة في سوريا، هي واحدة من أهم مراكز الاستهداف السياسي للتنظيمات والأحزاب السياسية والقوى الإقليمية إلى جانب الشباب، وقد ذكرت ذلك بشكل سريع في المقالة السابقة.

وإن أكثر ما يتم التركيز عليه حالياً هو توطين المفاهيم النسوية، وضرورة مشاركة المرأة سياسياً، من أجل إيجاد مخرج سياسي للقضية السورية.

ومع توسع مفاهيم الحريات، والمشاركة الفعلية للمرأة في مجالات الحياة المختلفة والعمل، وعدم وجود منظومات سياسية سابقة تهتم بالنساء أو تعمل على توعيتهم بمفردات العمل السياسي، والمشاركة بالحياة السياسية، جعلت الباب مفتوحاً لمختلف التيارات والإيديولوجيات لتمارس اجتهاداتها الخاصة في ميدان حراك المرأة السورية، بما فيه من سلبيات وإيجابيات وحماس واندفاع غير منظم، أساء في كثير من الأحيان لهوية المرأة السورية وثقافتها والعادات والتقاليد التي تحيط بها، وجعلت من هذا الحراك يبدو تمرداً على المجتمع بدلاً من أن يتم تقديمه على أنه حاجة ملحة يجب العمل على تمكينها ودعمها لتأخذ دورها الحقيقي والمهم في هذا السياق.

بالإضافة إلى توليد نوع من العنف والعنف المضاد في فهم طبيعة الحراك النسائي السوري، الذي استند إلى ايديولوجيات غير واعية بطبيعة هذا المجتمع سواء عند التيارات المتشددة أو تلك التي تعد متحررة فوق العادة، فيما بقي التيار الذي يحاول أن يوازن بين هذين الطرفين ضحية للصراع المحتدم بينهما، دون أن يستطيع صياغة هوية واضحة قائمة على الاعتدال في مواجهة ثقافتين محددتين بدقة وتحملان أيديولوجيا ساطعة.

في هذا السياق تفعل الدعاية فعلها، كما يفعل المال والقدرة على التنظيم واحتضان المشاريع التي تملأ الفراغ عند الناشطات وتوفر لهم فرص العمل فعلها أيضاً، وتسهم إلى حد كبير في تكوين الثقافة الجديدة وخلق الصراعات البينية بين مختلف الثقافات المطروحة من أجل الوصول إلى تيار سائد يمثل التوجه العام للمرأة السورية، دون أن تتم مراعاة تمثيل الهوية الأصيلة التي تنتمي لها غالبية النساء السوريات في أي من المحافل السياسية الرسمية سواء في منصات المعارضة أو النظام، وإن هذا التجاهل المتعمد هو أحد أبرز أشكال إعادة صياغة هوية المرأة في سوريا لصالح التماهي مع النموذج الذي يتم تصديره ودعم وصوله.

وهذا أحد أهم التحديات التي يجب على المرأة مواجهتها، لكي تختار هي بعناية ما تريد أن تظهر به في عملها السياسي دون ضغوطات إيديولوجية أصبحت واضحة جداً في عدد كبير من المجالات بدءاً من المنصات الدولية مروراً بمنظمات المجتمع المدني ووصولاً إلى اهتمام الإعلام والمنظومات الإنسانية.

أنا لا أدعو المرأة هنا لتبني موقف محدد، ولكني أدعوها لتكون واعية لحجم الاستقطاب حولها، وأن تكون حريصة جداً على أن لا يتم التعامل معها كحالة تزيينية، أو أحد أدوات الضغط السياسي على الآخرين، وإنما يجب أن تنطلق من موقف واعي بحقوقها وواجباتها وإرادتها السياسية وتموضعها المهم جداً داخل المجتمع السوري، وأهمية الحفاظ على هذا التموضع لكي لا يسبب الخروج منه في حالة من التمرد إلى انهيارات وانتكاسات مجتمعية وأخلاقية وأسرية تكون كارثية على الجميع.    

 

إعادة تشكيل الثقافة والهوية

يُعدُّ الصراع على إعادة تشكيل الهوية الجديدة للمجتمع السوري أحد أهم التحديات التي تواجه هذا المجتمع ومثقفيه بوصفهم حراس للثقافة ببعديها (المرجعي العقائدي، والعرفي السلوكي)، التي تشكل بدورها الهوية الجامعة وبؤرة الانتماء الأصيلة لهذا الشعب.

الشباب والمرأة في هذا الإطار هم الأكثر استهدافًا، لاسيما أن الشباب والمرأة يشكلان المستقبل الحتمي للبلاد الذي سيصيغ رؤية المجتمع وثقافته الجديدة عبر اللاوعي والوعي الذي شكلته تجربة قاسية وأحداث عظيمة تركت قناعاتٍ وآثارًا وندوبًا واضحة وراسخة في عقلية هذه الفئة المهمة، ولم تلقن كتعاليم، كما في الثقافة السائدة التي نشأنا عليها نحن، والتي لم تخضع لاختبارات كافية تجعل منها عقائد قويمة وثابتة في نفوس النشء الجديد، والمرأة المهمشة.

وإن ما يجري حولنا من أحداث لا يتشكل بطريقة عفوية ضمن السيرورة التاريخية الطبيعية التي تحمل الثقافة وقيمها وتضمن تطورها وتفاعلها عبر الأجيال، وإنما تفعل فيه جميع القوى السائدة اليوم فعلها العولمي الواضح الذي يريد محو الأثر التاريخي والحضاري العظيم الذي تنتمي له هذه الأمة، لصالح تمكين ثقافات أخرى تغيّر بُوصلة الانتماء والانشداه الحضاري المتشبثة بالجذور تجاه قيم ما بعد الحداثة والعالم الجديد وبوتقة العالمية الواحدة والمعاصرة المستقبلية، التي يتم من خلالها إلغاء شخصية حضارية نافذة وقوية ومنافسة في مقابل صناعة موجة بشرية فتية هائلة من الأتباع بأقل التكاليف الممكنة.

هذا الأمر يتم بأساليب متعددة في مقدمتها الإعلام بأشكاله المختلفة، والدراما والسينما والمسرح والموسيقا والشعر والأغنية والفنون بمختلف أنواعها بما في ذلك أساليب العمارة الحديثة ونظريات الهندسة، والعمل على تغيير طرائق وأنماط التفكير عبر الطروحات المشوَّهة التي تحملها الأنشطة العبثية الكثيرة التي تقوم بها العديد من المنظمات (الإنسانية)، ومحاولة إحداث القطيعة مع التاريخ بحجج الواقعية وعدم ملائمة الدرس التاريخي للظروف الراهنة، والتدخلات السياسية في صياغة التاريخ، والتعلق السلبي بالإرث القديم الذي يقوم على حتمية الخلاص.

وما تتضمنه تلك المحاولة من هدم للرموز والقدوات والبطولات التاريخية الملهمة، فضلاً عن عرقلة هذه الحجج والمنهجية القائمة عليها لبناء أي رمز أو قدوة جديدة في إطار ديالكتيك النقد المحموم تجاه كل شيء، والغرق عميقًا في الفلسفات النظرية والتنظيرية التي تهمل صناعة النموذج الحضاري للأمة في مقابل الإشارة إلى النماذج الحضارية الرائجة والسائدة اليوم، على أنها منهجيات ونماذج قابلة للاتباع والاقتداء وإعادة التدوير، في الوقت الذي بدأت فيه هذه المنهجيات نفسها بالأفول والتقهقر في بلاد المنشأ.

ورغم أحقيّة بعض الطروحات المتعلقة بالإرث الحضاري والتاريخي والفهم السلبي له، إلَّا أن طريقة التعامل النسفية مع هذا الأمر تعقد المشكلة بدلاً من أن تسهم في حلّها، ورغم أهمية الواقعية في التعاطي مع الظروف الراهنة، إلا أن تجاهل مقومات الهوية والانتماء والمرجعية للشعوب تجعل هذا التعاطي عقيمًا؛ لأن محركاته العملية غير موجودة في ثقافة أبناء هذه الأمة.

وبالتالي فالذين يظنون أنهم يخضون معركة التحديث واللحاق بالغرب بنية حسنة، هم أمام تحديان كبيران، الأول يتمثل في خلق الهوية الجديدة، والآخر في إعادة إنتاج السلوكيات والثقافة المتعلقة بها في جانبها التطبيقي الذي يحتاج أجيالًا متلاحقة من التدجين الفكري والعملي. 

إن المعركة الأشد خطورة في الحفاظ على الهوية هي مواجهة مفاهيم العولمة الاجتماعية بالدرجة الأولى، التي بدأت تُعيد صياغة العلاقات والتفاهمات داخل الأسرة الواحدة، وبدأت تنمِّط تلك العلاقات على الطريقة الغربية، التي تقدس الحالة الفردية في مقابل الجماعة، وتلغي أهمية المجتمع مقابل المكاسب الذاتية للفرد، وليس أدلَّ على ذلك من انتشار مصطلحات التمرد والاستقلال المادي والتذمر من الحالة الوظيفية والخطاب الفارغ باسم الحريات الذي يتجاوز حدود الممكن في مجتمعاتنا ويؤدي إلى تصدعها وانقسامها ويثير النعرات الطائفية والعرقية بدلاً من علاجها، والتخلي عن الاهتمام بتعلم اللغة العربية وتعويمها واستبدالها بالمحكيات المحلية، والتغني بالغربة والأوطان الجديدة، والدعوة إلى الإلحاد وهدم القيم وإعادة بناء الأخلاق بعيدًا عن الحالة الدينية والإيمانية، ضمن أنظمة الرقابة البشرية!!

 

كيف نحافظ على الهوية الثقافية والانتماء الحضاري

في مواجهة عملية التغريب تلك، نحتاج الكثير من التوازن والعقلانية والتمهل في تلقف كل ما نتعرض له اليوم من إيديولوجيات ونظريات وفلسفات جديدة تريد العبث بالهوية والانتماء والشخصية الحضارية التي ننتمي لها، والتي تمثل أحد أهم أبعاد الوجود وضروراته كأمة متفردة، وإن محاولة فرض أي هويات جديدة لا تنتمي لهذه الأمة ستخلق صراعات بينية قادرة على إفنائها ذاتيًا، وفي أحسن الأحوال صراعات تصهر كل مجموعة منها في ثقافة جديدة وافدة تشكل الانتماء الجديد لهذه المجموعة أو تلك، وبالتالي فقدان الانتماء المشترك للمجتمع مقابل الانتماءات الجزئية لكل جماعة على حدى، مما يؤدي لفقدان الحالة الوطنية. 

بدلاً من ذلك يجب العمل على إعادة إحياء الهوية العميقة في نفوس أبناء وشعوب المنطقة كافة، والتي لا تتعارض مع إبراز الهويات المحلية والإقليمية وإنما تتكامل معها في خلق النسيج المتماسك للهوية الحضارية المشتركة والعظيمة لأبناء هذه المنطقة وشعوبها المتنوعة، والعمل أيضًا على إعادة توحيد هذه الشعوب خلف رسالتها الوجودية، التي تشكِّل غاياتها المستقبلية وجذور الماضي الثقافي العميق الذي تنتمي إليه، وإعادة إطلاق المحركات الكامنة داخل وجدان هذه الشعوب لاسترداد قيمها الحضارية الخالدة وقوتها الداخلية، بحيث تعود كحضارة فاعلة ومنافسة، لها احترامها ومقوماتها المميزة في عالم اليوم والمستقبل القريب. 

 

أحمد وديع العبسيالانتماء الحضاريالتنظيمات الشبابيةالتيارات النسويةالسياسة والشبابالشباب والمرأةالعولمة والهويةالمرأة والسياسيةالمرأة والمجتمعالنسويةالهويات الوطنيةصراعات الثقافة والانتماء