ليست خياراً لأحد

أحمد وديع العبسي

لا غرابة أن يكون المنتصر في دمشق هو النظام ورئيسه بشار الأسد، وأن ينتصر في بقية أرجاء البلاد أمراء الحرب وقادة المليشيات وأصحاب المشاريع الإيديولوجية والانفصالية، أو أن تنتصر مصالح الدول الإقليمية والعالمية، فهؤلاء وحدهم من يعملون بجد، ويوفرون أسباب الطغيان، ويبذلون في سبيل الباطل، ويصرّون على البقاء في هذه الجغرافيا ما استطاعوا إلى ذلك، لتحقيق مصالحهم وأهدافهم وإنفاذ إجرامهم بحق الشعب السوري.

وأعلم أن هذه مقدمة قاسية بحق أهل البلاد والثورة، فهؤلاء أتعبوا أهل التضحيات من بعدهم، وأفاضوا دماؤهم في كل شبرٍ من هذه الأرض، ولكنّ موازين القوة خذلتهم، وخذلهم الحلفاء والأصدقاء، وخذلتهم أنفسهم على طول الأمد، فلم تعد كلُّ نفسٍ تقوى على المضي في هذا الطريق، ولم تعد أسبابه متوفرة كما كانت من قبل، وقد حصد الموت منهم كلَّ عزيمة وإرادة.

وقد تفرق أهل الحق عن بلدهم في أصقاع البلاد وشغلتهم أسباب الحياة، فأرض الله واسعة، والجهاد يكون في كل أرض، والتهجير لا يقتل لأهل الحق عزيمة، ولا يوقف لهم سعياً ولا تمنعهم منه غنيمة، هكذا يعزّي المهجّرون أنفسهم، وهم يقولون نعود! وما عاد من قبلهم، ولا اجتهدوا في توفير أسباب العودة، وإنما يحنون، ويدبجون القصائد، ويلوكون الشعارات، ويعمل الصادقون منهم (على قلّتهم) ما استطاعوا لدعم جهاد من تبقى على تلك الأرض باذلين المال والرأي، دون أن يبذلوا أسباب العودة في معظم هذه القلّة، لأن البلاد لا تملك مستقبلاً للحياة والأبناء و …

عندما نزلت آية “وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍۢ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ” نزلت في قومٍ يتسابقون نحو الجهاد في سبيل الله، وبذل النفس والمال، والإقامة في ثغور وساحات الرباط والقتال، حتى ليخشى عليهم دائرة حرب تُفنيهم أو تأتي على معظمهم، فكان لا بدّ من بقاء مجموعات يغلقون ثغور الجهاد الأخرى، من العلم بالدين والقيام بأمر الناس وعمارة الدنيا، أمّا اليوم فخيارات الناس في (الجهاد) تذهب تلقاء أسهل طرقه، من الابتعاد عن ساحات الاصطدام وتوفير الأمان للأهل، والعمل بالدعوة في أصقاع الأرض، والعمل على عمارة الدنيا والنجاح في علومها، حيث لا يبقى في ساحات الجهاد غالباً إلا المغلوبون على أمرهم ممن لا يملكون ترف الخروج إلى خيارات جهاد أخرى أكثر سعة ورفاهية.

لا أحد يريد الصبر على واقع الحياة في سورية اختياراً لكي يحقق النصر، فكيف يحدث هذا النصر؟! العلماء والأطباء والخبراء والدعاة والطلاب والتجار، جميعهم يرغبون بالعودة إذا استقرت الأوضاع، يرغبون بالدخول فاتحين منتصرين، لا متحملين لأعباء تحقيق الانتصار على أنفسهم وأهليهم وأبنائهم! بينما الطغاة يتحملون أعباء ومخاطر الطغيان لتحقيق مصالحهم فينتصرون، ونكتفي نحن بتضميد الجراح.

ولا أقول إن العمل خارج الجغرافيا ليس مطلوباً، بل ربما يكون ذا أثرٍ أكبر في بعض الأحيان، وربما يكون ضرورةً في بعض المجالات، ولكن فتنة الانصراف عن الغاية خارج الحدود أكبر، وتحديات رفاهية الحياة والانشغال بفتنتها أكبر، والشعور بالخذلان والهزيمة والاستسلام نتيجة عدم تحقق شيء يكون أكبر، فإن استطعت أن تحمي نفسك من كل هذا فاثبت في ثغرك الذي اخترته لنفسك في المهجر، ولكن ذلك أيضاً لا يكفي، وإنما عليك أن تُشعر الناس في الداخل أنهم يعقدون خيارهم في البقاء لا أنهم مجبورون متروكون لتصاريف الزمان، عليك أن تقدّم لهم من أسباب الحياة والثبات والرباط والجهاد ما يجعل مغادرتهم مغرماً لا مغنماً، أن تكفل من تستطيع منهم، وتقتسم معهم قوتك على الغنى والفقر، لكي تؤدي دورك وكأنك فيهم ومعهم.

إنّ احتمالية نصرك حين يكون جهادك عن نفسك وأهلك ورسالتك أكبر من احتمالية نصرك عندما تكون آمناً تجاهد عن غاية لا تخشى على شيء إذا خسرت أحد جولات جهادها، فبذل الجدّ والجهد والنفس والمال يكون مضاعفاً في الحالة الأولى، لأن دماءك وأبناءك ومستقبلك في عين المواجهة.

إننا ننتصر حيث تكون خياراتنا وخيارات أبنائنا لا حيث نؤدي فروض الكفاية، لذلك ترانا نحقق النجاحات في كل البلاد التي هُجرنا إليها، فتنتصر بنا تلك البلاد، لا نحن، ونَمُنّ أحياناً على بلادنا بفضول أموالنا ووقتنا، بينما لا تنتصر بلادنا لأنها ليست خياراً لأحد، ولم ننجح بأن نجعلها خياراً لأحد.

لو فتحت اليوم الحدود لما بقي في البلاد سوى اللصوص والطغاة وقطاع الطرق، وقليل من المخلصين لا يجدون عوناً لهم إلا الله وهو كافيهم بإذنه، ولكننا الخاسرون.

لا ينتصر المغلوبون على أمرهم المتطلعون للنجاة، وإنما ينتصر المجاهدون في سبيل الله، الثابتون على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى قيام الساعة …

أحمد وديع العبسيأمراء الحربالعودةالمناطق المحررةالهجرة والتهجيرسورية