سقوط كييف، ما تجاهلته أوكرانيا، وأدركته بقية الدول في المستقبل الجيوسياسي للمنطقة

أحمد وديع العبسي

في ثالث أيام الحرب الروسية على أوكرانيا يبدو سقوط كييف قريباً وواقعياً جداً، وليس مفاجئاً أن تسقط العاصمة اليوم، أو خلال يومين كما قال بعض المسؤولين الأمريكيين للصحافة، رغم أن القتال والمقاومة التي تبديها كييف قد تطيل أمد الحرب، خاصة مع وصول شحنات من الأسلحة الدفاعية إليها، لكن لا يبدو أن في جعبة الغرب (الولايات المتحدة وأوروبا وبقية الحلفاء في الناتو) أي خطوات جديدة أو مفاجئة لروسية تستطيع تغيير المعادلة جذرياً على الأرض، وسيعتمد هذا فقط على شجاعة الأوكرانيين وصمودهم لا غير. أمّا قادة الغرب فقد بدؤوا بتقبل فكرة سيطرة الروس على أوكرانيا حتى من خلال تصريحاتهم، فحديث التحديات الغربية لروسيا أصبح يستهدف ما بعد أوكرانيا، فالولايات المتحدة والمسؤولون الأوروبيون صاروا يحذرون روسيا من الاعتداء على أي دولة في الناتو بعد السيطرة على أوكرانيا، في تجاوز مبكر لنتائج الحرب الروسية التي يبدو أنها محسومة النتائج مسبقاً.

أمّا فيما يخص العقوبات الاقتصادية، من الواضح جداً أن روسيا كانت مستعدة تماماً لكافة أنواع العقوبات، وتعرف جيداً أن هذه العقوبات ستكون مرحلية ولن تتجاوز فترة الحرب، ومن الممكن التفاوض عليها وإنهائها في فترة قريبة، لأن المصالح الروسية الأوروبية متداخلة بشكل كبير، خاصة في مجال الطاقة، ولن يفرط الأوروبيين في مصالحهم من أجل قضية منتهية، وسيحاولون التعامل مع الشكل الجديد في أوكرانيا إعلامياً فقط، أمّا واقعياً فسيتقبلون الأمر كما حدث سابقاً في القرم وجورجيا.

يدرك الغرب أنه هدد روسيا بشكل مباشر وأنه أجهز على أوكرانيا، عندما قبل مبدئياً ترشيح أوكرانيا للانضمام للاتحاد الأوروبي، وعندما تعامل بإيجابية مع طموحات أوكرانيا للانضمام لحلف الناتو، فهذه الدولة التي تتشارك حدود طويلة مع روسيا، والتي تعتبر من أهم جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة، لا يمكن للروس التخلي عنها، وإذا قبلوا حياديتها لفترة من الزمن، فمن المستحيل أن يقبل الروس احتمالية أن تذهب للمعسكر الآخر، أو أن تصبح هذه الحدود منصات لصواريخ الناتو التي تستطيع محاصرة موسكو.

الرئيس الأوكراني والطامحين معه للدخول في الحلف الغربي حاولوا تجاهل هذه الحقائق الجيوسياسية، وحاولوا تجاهل التهديد الكبير الذي ستشعر به روسيا فيما لو انخرطت أوكرانيا في حلف الناتو، هذا التجاهل كان يحمل في طياته ظنوناً بالضعف الروسي أمام خوض حرب شاملة ضد أوكرانيا، وكان يحمل ثقة زائدة بالحلفاء الغربيين واستعدادهم للدفاع عن دولة تريد أن تكون جزءاً من منظومتهم على الحدود الروسية

هذا التجاهل وضعف الخبرة لدى القيادة الأوكرانية قوبل بتخوفات واضحة من قبل قادة الاتحاد الأوروبي والناتو، فلم يرغبوا باستفزاز روسيا، وفضلوا التريث كثيراً قبل اتخاذ أي خطوة لقبول انضمام أوكرانيا إليهم، لأنهم يعلمون أن هذا الانضمام سيشكل ضغطاً مباشراً على روسيا القوية اليوم، وليست الضعيفة كما في الأمس القريب، وربما يشعل مواجهة مباشرة مع الروس، هذه المواجهة إما ستدمر المنطقة إذا دخلها الناتو للدفاع عن أحد أعضائه، أو ستدمر الناتو من الداخل إذا تخاذل عن الدفاع عن دولة عضو فيه، .. ولأن روسيا تعلم الموقف الأوروبي استعجلت في غزو أوكرانيا قبل أن تقع أي حماقة تجعل هذا الخيار مطروحاً على الطاولة إذا ما تمّ قبول أوكرانيا في الناتو.

أوكرانيا جزء من الأمن القومي الروسي، هذه حقيقة لا يمكن تجاهلها، وكان يجب على كييف أن تدرك ذلك، وأن لا تستفز الروس في الانحياز إلى أعدائهم، وأن لا تثق أن الناتو أو أوروبا سيتدخلون لحمايتها، فالحرب مع روسيا ليست سهلة، وقد أدرك الرئيس الأوكراني في وقت متأخر جداً كم هي مخيفة لدول الاتحاد الأوروبي، وللناتو على حدٍ سواء، وقد عرف في نفس الوقت أن السياسة هي كوميديا سوداء لا تشبه العروض التي كان يقوم بها كممثل قبل توليه الرئاسة، فالغرب اليوم بكل دوله وتحالفاته يشدد على عدم ارتكاب أي حماقة في مواجهة روسيا، والاكتفاء فقط بالضغوط الاقتصادية.

ليس بوتين فقط، بل كل روسي يعلم أن هذه الحرب لابدّ منها، وأن تأمين الحدود الروسية ضروري في وجه الأوروبيين بشكل دائم، إذا أرادت روسيا الحفاظ على موقعها القوي بين دول العالم، وأن لا تسمح للناتو بمحاصرتها، وإذا ما سقطت كييف لإي الأيام القادمة، ستكون المرحلة المقبلة مرحلة نفوذ أكبر للروس، نفوذ لا تملك الدول الأوروبية المنهكة اقتصادياً دفعه أو تغييره، وإنما ستتعامل معه كواقع، واعتقد أن العشر سنوات القادمة ستحمل علاقات مميزة وتحالفات بين الروس والألمان، وستكون أوروبا بشكل أو بآخر قسمة بين هذين البلدين كما كانت في بدايات الحرب العالمية الثانية، مع الاحترام لفرنسا وبريطانيا، (الاحترام فقط)، وتوازنات جديدة مع الولايات المتحدة والصين، ونفوذ إقليمي أكبر لتركيا، التي ستستعيد هي الأخرى دورها الإقليمي والعالمي كوريث لإمبراطورية عظيمة شيئاً فشيئاً، ولو بوتيرة أقل سرعة مما تفعل روسيا والصين.

الشرق الأوسط وأوروبا الوسطى والشرقية وشرق آسيا وأفريقيا، هي مناطق تقاسم النفوذ الجديدة لإثبات القوة والهيمنة ورسم العلاقات بين الدول، والدول الأقوى في هذه المنظومات هي تلك الدول  التي تعرف كيف ترسم مصالحها الجيوسياسية وتتحالف مع دول الإقليم القوية، لكي لا تكون في مرحلة ما ضحية تسوية، أو ضحية أمن قومي وجيوسياسي بين امبراطوريات العالم الجديد الذي ترسمه اليوم هذه الحرب كإحدى أهم المتغيرات.

امّا احتمالية أن تغيّر دول الناتو استراتيجيتها وتقرر مهاجمة روسيا، أو دعم كييف بشكل مباشر، فاعتقد أن هذه الاحتمالية على ضآلتها ستتسبب بكوارث مضاعفة لما يمكن ان يخسره الغرب بالسيطرة الروسية على أوكرانيا، وربما ستصل إلى حرب عالمية ثالثة تستخدم فيها أسلحة نووية، وستتضاعف أزمة الطاقة العالمية، وستخرج أوروبا مرة أخرى منهكة من الحرب بأزمات غير منتهية، خاصة مع عدم القدرة على توقع أين يمكن أن يصل جنون بوتين، لذلك فضمن حسابات المصالح، يبدو أن الغرب قد فعل كل ما يمكن أن يفعله وسيتقبل الوضع الجديد لأوكرانيا، ضمن تقاسم جديد للمصالح والنفوذ، كما حدث سابقاً مع الألمان قبل الحرب العالمية الثانية، ولن يرتكب بوتين أي حماقة مع دول الناتو إذا ما تُركت له أوكرانيا، فهو سيقبل بالوضع الجديد الذي فيه اعتراف كبير بقوته وأهمية الدور الروسي في أوروبا وفي المتوسط بعد ذلك من خلال بوابتي سوريا وليبيا.

وعلى المعارضة السورية أن تدرك هذه المتغيرات من أجل رسم سياستها للمرحلة المقبلة، فمن لم ينقذ أوكرانيا، لن يتدخل بأكثر من التغريدات من أجل سورية، وستصبح البيانات الرسمية التي نقتات عليها اليوم، أحلاماً وعملة نادرة في المستقبل القريب، وسينعكس هذا على تعامل الأمم المتحدة مع قضيتنا، وعلى المساعدات الإنسانية والمعابر.

 

أحمد وديع العبسيألمانياالحرب الروسية الأوكرانيةالفضاء الجيوسياسي الروسيالولايات المتحدةتركياسورية