مع التطور الكبير للآلة يتقلص دور الإنسان المحوري في الأنظمة، ويزيد الاعتماد على النخبة في كل مجال، مقابل تحول مليارات البشر إلى جزء من المحرك العالمي الكبير الذي يقوم بتحريك العالم وفق نظام دقيق، يعبّر عن مدى التطور والحضارة التي وصل إليها الإنسان، حيث لا أخطاء كثيرة، ولا أشخاص مفصلين كُثر من الممكن أن تتعطل حركة العمل بفقدانهم.
إن الحضارة اليوم أو الاتقان في عمل المؤسسات والمنظمات والشركات تُقاس بمدى قدرتها على برمجة نظام متقن للعمل يكون فيه الاستغناء عن الأشخاص سهلاً جداً، حيث أن القيمة العليا للمؤسسة وليست للأفراد، كما أن الخبرة موجودة داخل المؤسسة ومفسرة ومشروحة بوضوح وبمعايير بالغة الدقة لا تحتاج كثيراً من أجل تعلمها من أي شخص تتطابق مواصفاته الأساسية مع مواصفات هذا المركز الوظيفي أو ذاك.
يبدو هذا الكلام جميلاً جداً، وكما قال لي أحدهم: إنّ عكسه يعني علم أقل يعني مشكلات أكثر، ويعني عدم التطور، ولكن ما القيمة التي تبقى للإنسان وإمكانية تطوره في هذا النظام.
كل يوم نكتشف أن المهارات التي صار يحتاجها البشر للالتحاق بوظائف صارت أقل بكثير من قبل، خاصة كلما كانت الدولة متطورة أكثر، قد تكون مهارات عظيمة ولكنها كما يقال دائماً (متخصصة).
تدخل مؤسسة اليوم فترى أن كل موظف لديه مهمة واضحة وصغيرة ولكنها كثيفة يعمل عليها طول النهار، وبدلاً من اتقان مهارتين ليقوم الموظف بعمل أكبر، يتقن مهارة واحدة فقط، ويقوم موظف آخرة بمهارة أخرى، ليبدأ الضمور في كثير من وظائفنا العقلية مع التطور الكبير للآلة، ومع محدودية أدوارنا التي نقوم بها، وبالتالي ينعكس ذلك على قدرتنا على التحرك بحرية داخل هذا النظام المنضبط بشدة، وعلى محاولة التحرر منه.
منذ عشر سنوات كنت أتمتع بقدرات عقلية أفضل بكثير من اليوم في حفظ الأرقام والشعر وحتى تحليل البيانات البسيطة، أما اليوم فالكومبيوتر يقوم بمجمل ما كنت أقوم به، فأجدني عاجزاً حتى عن التفكير بجدوى أن أحفظ شيئاً، ومحركات البحث صارت تغنيني عن الكثير مما يمكن أن استحضره من الذاكرة فصارت خاملة تقريباً، مهمتها فقط أن ترسل إلي بعض الإشارات والكلمات، ليتولى غوغل بقية عمل الذاكرة.
الانعكاسات الأكبر تبدو بوضوح في الجوانب الاجتماعية، حيث أن العلاقات الكبيرة مع الآلة جعلت العلاقات الاجتماعية أكثر صعوبة وتعقيداً، وأصبحنا أقل قدرة على فهم بعضنا البعض، وأقل قدرة على التواصل الاجتماعي أو الاهتمام بهذا النوع من العلاقات، أصبح لكل إنسان دوره، والعالم يتحرك بسرعة لا تسمح لنا بأكثر من إلقاء التحية، والمشكلة التي نراها اليوم فضيلة أن الكل يعذر الكل، لا عتاب ولا حزن من هذه الحالة ولا حتى قطيعة، فالجميع يدورون حول نفس النظام وبتسارع مشابه، وحدهم أولئك المتخلفون! (كما نسميهم) الذين لديهم الكثير من الوقت ولا شيء يفعلونه، الذين لم يستطيعوا الالتحاق بركب الحضارة، ولا يزالون يمارسون الأعمال التي يكون دور الإنسان محورياً فيها على قلتها، هؤلاء فقط يتذمرون منّا ويشعرون أننا نتقصد الانشغال، لأننا سئمنا من هذا انوع من العلاقات، هؤلاء فقط هم المحقون إلى درجة كبيرة، وهم نفسهم الذين نلجأ إليهم إذا ما وصلنا لمراحل متقدمة من الإرهاق النفسي لكي نستطيع مواساة أنفسنا.
تم دمج المقالتين على الموقع في وقت لاحق بعد النشر في مقال واحد لسهولة القراءة
قد لا نستغرب الآن عبارة (سيستم يوك) التي أصبحنا نتندر بها على الأتراك، إلا أنَّ بعض الموظفين يكونون أكثر مرونة من غيرهم مع السيستم، إن ذلك تقريباً هو فارق السيطرة والانخراط بهذا النظام الذي لا يعرف فيه الموظف سوى بعض الحركات التي كُلَّف بها في وظيفته، مع خشيته من أي حركات أخرى قد تُخرّب النظام ويكون مسؤولاً عنها، فيكتفي بالقول (النظام مُعطَّل) !، أو قد يحيلك لبدء الإجراءات من أولها…!
السوريون في سورية وتركيا، لا يزالون بعيدين بعض الشيء عن سطوة هذا السيستم، رغم دخولنا في متاهته قليلاً، لكنَّ جيلنا ربما يكون الأخير، فنحن فقط الذين لا يزالون يحملون ذاكرة الأشياء البسيطة، ويعرفون أن الحياة أعظم من أن تختزل داخل نظام يفرض على كل إنسان تحركاته بدقة، لكن الأجيال القادمة التي وُلِدت وتنشأ اليوم في أوروبا وحتى في سورية وجوارها لن تكون قادرة غالباً على التحرك بنفس الحرية والحيوية السابقة إذا لم نستطع التغلب اليوم على تلك المتاهة.
فالمنظمات الدولية تملأ مفاصل الحياة من حولنا، وتعطي الأجور الكبيرة مقابل الأعمال الصغيرة التي تمنح صاحبها وَهْمَ الخبرة، والمنظمات المحلية تضطر أن تفعل الشيء نفسه لتستطيع المنافسة في سوق العمل من أجل أن تنجز أعمالها، وكل يوم الخبرات العامة تضعف مقابل الخبرات (التخصصية)، والنظام يركّب نفسه فوقنا بسهولة كبيرة، ونحن نستجيب بدون مقاومة، ذاك أنه مليء بالشهوات والمتعة، والمال، والسهولة، وبالمراكز الاجتماعية البراقة، وبوهْم التفوق والخبرة.
ربما لا يبدو ما نقوله منتشرًا بشكل كبير في حاضرنا الذي نعيشه، وهو في داخل سورية أكثر منه في خارجها، بسبب التنافس الكبير في الخارج وتوفر الخبرات، لكنه يزحف باتجاهنا ويسيطر بكل حداثته وتطوره وعولمته على حياتنا، ويرسم لنا حتى عاداتنا الثقافية في المأكل والمشرب وطبيعة العلاقات الاجتماعية على أنها نوع من البروتوكول العالمي الذي يجب أن يكون أحد خبراتنا من أجل التنافس الوظيفي لإيجاد مكان مهم في هذا المحرك الكبير الذي يدور بنا لتحقيق ما تريده النخبة، وبعد أن يتم تدجيننا بشكل حقيقي كالآلات (خبرات قليلة وأعمال كثيفة)، يصبح من السهل الاستغناء عنا بواسطة الآلات والتطور التكنولوجي.
قد تبدو بعض العبارات شبيهة بما يتم تداوله في نظريات المؤامرة، لكن الحقيقة أن العبارات في هذه المسائل هي ذات طبيعة إنشائية غالباً؛ ذلك أنها لا تستطيع تلمّس الأدلة بسهولة، وقد تمّ تلقيننا بشكل جيد أنَّ أي نوع من هذه العبارات هي عبارات فارغة، وغير حقيقية، وتستند إلى نظريات المؤامرة، والوهم، فصدَّقنا الأمر، وتركنا المؤامرة في كثير من الأحيان تسير حولنا وتطحننا دون أي مواجهة، واكتفينا بالفرجة والذهول محاولين إيجاد تفسيرات أخرى تكون أكثر واقعية بالنسبة لعقولنا التي تم تقييدها ضمن مساحات محدودة للغاية.
إننا نسمع كل يوم بوظائف وأعمال سوف تندثر بسبب التطور، وأعمال أخرى تصبح أكثر رواجاً، ولكن الصدفة! أن ما يصبح أكثر أهمية ورواجاً لا يتسع للجميع، طبيعة أعمال التحكم الآلي والبرمجة لا تحتاج أشخاص كُثر، لكنّ هذا لا يعني أن نقف عن التطور من أجل الحفاظ على وجودنا، على العكس تماماً، نحتاج أن نتطور أكثر ولكن باتجاهات متعددة بعيداً عن اتجاه التعليب الذي يركز فقط على جعلك آلة، ومهما كانت المغريات، يجب أن لا نتوقف عن كوننا بشراً، ولا نسمح لهذا النظام بالتمكّن منا لنكون محركات صغيرة حول محوره يتم تبديلها بسهولة، بل لا بدّ أن نكون محاور كثيرة ومختلفة من الصعب إعادة تصنيعها إلا ضمن دورة الحياة الطبيعية.
قد تحتاج هذه القضية تفصيلًا أكبر، فظاهرها أنَّ هذا النظام مريح، وأكثر إنتاجًا، وأقل مخاطراً، ولكن علينا أن ندرك شيئًا مهماً هنا، (أماكن الراحة هي أماكن خطرة جدًا) وتجعل الاستغناء عن أصحابها سهل جدًا، وأن الإنسان وُجِد لكي تدور الأرض في فلكه، لا ليخترع نظامًا يجعل نفسه جزءًا صغيراً في محركات أفلاك الآخرين، كقطعة من آلة ضخمة.