الاستبداد التداولي

أحمد وديع العبسي

1٬275

بدأت العديد من المراكز البحثية والشخصيات الفكرية والسياسية في بلادنا ممارسة أدوات إجهاض الديمقراطية، قبل أن تُتاح لهم فرصة لممارسة ديمقراطية حقيقية، كنوع من التدريب على تجاوز آليات الديمقراطية التي من الممكن أن تجهز على أحلامهم الاستبدادية في الفكر والسلطة والسياسة والثقافة.

كتبت في مرات سابقة أن الديمقراطية لا يمكن أن تكون بديلاً جيداً للممارسة السياسية والسلطوية، بعد أن ظهرت الكثير من الوسائل القادرة على فرملتها، وتحويلها إلى أحد أوجه الاستبداد المزركشة في البلاد التي أنشأت ذلك المفهوم واجتهدت في تعويمه وعولمته، فالمال والشركات والإعلام والقوة والمصالح المتشابكة للقوى السياسية والعسكرية والإيديولوجية قادرة على إجهاض أي عملية اختيار حرّ للناس، وإجبارهم على خيارات محدّدة ومحدودة، أو جعلهم ينصرفون عن المشاركة والاهتمام، ليصل إلى السلطة في كل مرّة الأقوى، وليس الأفضل أو الأكفأ، أو لِنَقُل: إنه تمّ تغيير معايير الكفاءة والتفضيل لتُصبح متعلقة بشكل رئيسي بقوة البطش المالي و الإعلامي وما يرتبط بهما من معايير القوة.

لقد نشأت الديمقراطية من أجل توسيع فضاء الإيهام والخداع لا من أجل الوصول إلى الحقيقة، وهذا الأمر أصبح معروفاً اليوم على نطاق واسع، ولكن الناس يصرون على الديمقراطية لأنها توفر لهم الشعور بالمشاركة، وإن كانوا يدركون أن هذا ليس حقيقياً، لأن الخيارات من الأساس محدودة جدا وكلها تأتي وفق مصالح مشتركة تمّ الاتفاق عليها مسبقاً.

وبعيداً عن الخوض في التفاصيل أكثر، نحتاج أن نكتشف وسائل أخرى أكثر ترسيخاً لحرية الناس وإرادتهم من الآليات الديمقراطية، أو نحتاج لإجراء تعديلات كثيرة على النظام الديمقراطي تجعل السيطرة عليه أكثر صعوبة، وتجعله أكثر مقاومة للاستبداد …

وفي أثناء ذلك ليس أمامنا سوى الاعتماد على الآليات المتاحة بأفضل صورة ممكنة ريثما نتمكن من التغيير، أي الاعتماد على الوسائل الديمقراطية بطريقة (شريفة!) دون أن نستغل مكامن ضعفها لكي نمارس الطغيان، لا سيما ونحن في هذه المرحلة من التأسيس للتفاهم والتعايش والحرية، وإلا فإننا نؤسس للصراع بدلاً من التأسيس للحلول …

وللأسف الشديد تعمل الكثير من المراكز البحثية في المقام الأول وبعض السياسيين والمفكرين على استغلال نقاط ضعف الديمقراطية ليبدؤوا بترسيخ مفاهيم وقرارات ونظريات وآراء إشكالية تتبع أجنداتهم الخاصة عبر طغيان القوة والدعاية، باستخدام وسائل ديمقراطية شكلاً، استبدادية مضموناً، مزركشة كالعادة ببيانات وأسماء وطاولات مستديرة وعناوين ونقاشات، لا يتم التعبير عن مضمونها في الخلاصات والنتائج. إمّا عبر التحكم بشكل المدخلات ونوعيتها، أو عبر تحديد نقاط النقاش بحيث تُوصل لنتائج معدّة مسبقاً، أو عبر صياغة مخرجات غير متعلقة بالنقاشات وإنما بقناعات الباحثين والفريق التقنيّ!

ولا بدّ من أجل أن نكون أكثر وضوحاً من شرح مفصّل لما سبق، وضرب أمثلة عن ذلك، فمثلاً يأتي مركز بحثي يريد أن يبحث عن القضية (س)، وهو يريد نتيجة تؤيدها، فيعقد لقاءات بين مختلف شرائح الشعب (10) لقاءات، في كل لقاء عشر شخصيات، كل مجموعة لا تعرف ماذا دار من نقاشات في المجموعة الأخرى، وفي كل لقاء يُركز الميسرون على النقاط التي برزت كأكثر ما يؤيد (س) ولها دلائل جيدة، ويتم تجاهل النقاط الأخرى إلّا إذا تمّ طرحها من أحد المشاركين، فيتم الاستماع له وتجاوزه دون نقاش، بالإضافة لذلك يحرص المركز على أن تكون الغالبية من المدعوّين في كل لقاء من مؤيدي (س)، والمركز يعرف توجهات قائمة المدعوين مسبقاً، وفي النهاية ستكون النتائج كما أرادها المركز عبر التلاعب بالمدخلات، ولكنه سيصدرها كنتائج لرؤية عينة واسعة من الشعب (100) شخصية.

في طريقة أخرى يستشير سياسي معين عدد كبير من الناس في قضية معينة وفي أوقات متباعدة، وعبر مستشارين متباعدين ليس من السهل اجتماعهم، ثم يصدر قراره الخاص المعدّ مسبقاً تجاه هذه القضية، وعندما يسأله الناس عن شكل القرار المخالف لتوقعاتهم، سيقول: إنه نتيجة استشارة متعددة وإجماع أغلبية من قابلهم على ما قرّره في النهاية، والكل سيشهد له (إنه استشار ووسع دائرة المستشارين إلى أقصى حدّ).

مفكر آخر يصيغ أسئلة استبيان بطريقة توصل إلى نتائج معدّة مسبقاً، ويقول إنه توصل لنتائجه عبر دراسة توجهات الناس، وإنّ ما توصل إليه حقيقية لا ينبغي تجاوزها، وغير ذلك من الأساليب الملتوية! … التي يتم الاسترخاص بها أحياناً لدرجة عدم العمل على جودة طريقة التلاعب، والاكتفاء بجوانب شكلية هزيلة لا يمكن لأحد تعقبها. ثم الخروج بنتائج معدّة مسبقاً.

ومن الاستبداد والطغيان الفج هو استبعاد من يسبب نقاشات خارجة عن السياق الذي يريده المستبدون الجدد، أو يحفز المعارضة في المجموعات المختارة بعناية، بحيث يتم شطبه من قائمة المدعوين لنقاشات أخرى واستبداله بأشخاص مشغولين جداً، أو غير مبالين تماماً، لكنّ اسمهم كفيل بتمثيل شريحة معينة. وهذا رائج جداً على مستوى دولي وليس فقط محلّي.

المقلق في الأمر أن العديد من المؤسسات بدؤوا باستخدام هذه الأساليب قبل أن يصلوا إلى فضاء حرّ، أي أنهم بدؤوا بتقويض الحرية والديمقراطية مبكراً جداً، وربما ينعكس هذا على المناخات السياسية والاجتماعية القادمة، بحيث تكون أكثر قسوة وعدائية، عندما تشعر بعض المجموعات بتهميشها بقوة ناعمة وعبر أساليب ملتوية، مما يؤدي بتلك المجموعات إلى الدفاع عن نفسها بإنكار كل تلك النتائج وربما اللجوء إلى العنف لعدم امتلاكها نفس موارد القوة الناعمة.

وسينعكس هذا مستقبلاً على المناخ العام عبر البدء بنكران الحقائق الصحيحة لعدم الوثوق بها بسبب سهولة انتاج حقائق مغايرة عبر أساليب التلاعب المتنوعة.

وبالتالي فإن الإصرار على هذا النوع من الممارسات الديمقراطية الشكلية (الاستبدادية) سيجعل الباب مشرعاً أمام خطورة قدوم استبداد مباشر يضع حداً لكل تلك الأكاذيب والوسائل الملتوية، ويقرر وحده الحقائق والأساليب المستقيمة! أو سيكون الفضاء الحرّ ساحة للتلاعب ولأساليب قوة جديدة تخنق الحريّات وتحدُّ من إرادة الناس، ولكن بطريقة برّاقة وجميلة لترسم استبداد جديد، تداولي، تحدّده أسباب القوة، وتغيّراتها لا إرادة الناس وحريتهم، كما هو الحال في معظم الديمقراطيات الحديثة.

لنصل إلى نتيجة مفادها أن من يحكم الناس هو الأكثر قدرة على استعبادهم وخداعهم، لا من يهتم بحريتهم، وإرادتهم، ولا الأكثر قدرة على إدارة مصالحهم بأفضل صورة ممكنة من الإخلاص والعدالة.

 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط