العالم وصناعة التطرف

أحمد وديع العبسي

177

إن العالم اليوم وهو يحارب التطرف يقوم بشكل واعي غالباً، بتغذيته، فإذا كان التطرف يعني الغلو في إيديولوجيا معينة، ومحاربة الناس من أجلها، أو التشدد تجاه موقف معين سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، فمحاربته لا يجب أن تكون بالعمل على انهائه، لأن هذا تطرف آخر يعتقد بعدم أحقية وجود هذا التيار (المتطرف)!

إن الوقوف في المنتصف وادعاء الوسطية وحمل الناس عليها بالقوة هو تطرف آخر وشمولية واستبداد فكري، إنه تطرف يدعي الليبرالية، تطرف أقوياء وجدوا الحق فيما يعتقدونه، وقرروا أن الاتجاهات اليمنية واليسارية اتجاهات متطرفة، بينما في الحقيقة هي اتجاهات تمثل قناعات لأناس يعيشون في هذا العالم، ولهم كل الحق في اختيار أماكنهم، كما اختار أصحاب الوسط أماكنهم بحرية.

إن الحوار هو الأسلوب الأمثل لمحاربة الأفكار المتطرفة، هذا الأسلوب الذي حملته الديانات السماوية جمعاء، وليس الإقصاء والمحاربة، وإن الإسلام لم يسمح بمحاربة أي فكر مهما كان متطرفاً إلا إذا حمل في طياته الدعوة للحرب أو أي أذى البشرية، وبالتالي الوصول إلى التعامل مع الفكر المتطرف بأسلوبه!، أمّا إذا كان مسالماً فالحوار هو الأداة وفقط، (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) فالحقيقة المطلقة لا يعلمها إلا الله، وإنما يدعو الإنسان بما علّمه الله ولا يختزل الحق بعلمه أو دينه.

فمحاربة التطرف بالقوة هو توليد وتغذية للتطرف، عن طريق حقنه بمصل الثأر والانتقام في جهة، وإعداد جيل متطرف في الجهة المقابلة يقتنع أنه يجب أن يحارب الآخرين بسبب أفكارهم، لأن هؤلاء الآخرين حاربوه وحاولوا فرض أفكارهم عليه!

ثم إن التطرف في عالم قائم على الأقصاء والمحاربة والعولمة هو السبيل الوحيد للتعبير عن الذات والهوية والتمايز، وهو السبيل الوحيد لأبناء للثقافات الضعيفة للمقاومة ضد العولمة ومحاولة الإصهار داخل الثقافات القوية المحيطة بها، خاصة عند شعور هذه الأقليات أن المحيط لا يرحب بها وغير مهتم بحمايتها أو تقبلها ويسعى إلى القضاء عليها. والشعور بهذا التهديد يحرّض الأقليات على اتباع سياسة العنف لحماية وجودها، هذا العنف الذي قد يصل أحياناً للاستقواء بدول أجنبية لمحاربة الأكثرية، مما يخلق شرخ كبير في المجتمع يستمر بتوليد التطرف في الجهتين المتقابلتين يقوم على العنف والعنف المضاد.

بينما في عالم يسوده الحوار وتقبّل الآخر والعمل معه، فإن التطرف يختفي تماماً، وبحل محله التمايز الإيجابي بين البشر، حيث يعبر الجميع عن انحيازاتهم المختلفة في جميع المجالات بطمأنينة، كما يمكنهم الدعوة لهذه الانحيازات دون خوف من الملاحقة أو التضييق.

المشكلة الأكبر عندما يتم استغلال هذا التمايز الإيجابي بين البشر عمداً من أجل خلق الحروب، وقتل الناس وصناعة التطرف المنظم لتغذية اقتصاد الحرب والتدخل في الدول والمجتمعات وطريقة عيشها ونهب ثرواتها، هنا تصبح المشكلة دون حل تقريباً، ويصبح التنظير الاجتماعي والايديولوجي حيالها نوع من العبث وتضييع الوقت، لأن معتقدات الناس هنا ليست المشكلة، وإنما المشكلة بمن عمل على استغلالها في سياق اقتصادي معين، علينا تفكيك المصالح وقطع الأيدي الخارجية بداية، ثم من الممكن حل المشكلة الأيدولوجية بطريقة أسهل بكثير، وما حدث في رواندا خير دليل على ذلك، فالشعوب لا تَقتل من أجل المعتقد، وإنما هناك من يزرع بينها معتقد القتل من أجل مصالحه.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط