اللغةُ الوطنْ

حليمة صباح

اللغةُ الوطنْ
538

كثيراً ما سألت نفسي منذ صغري أسئلةً كثيرة، إذ لم يكن لديّ من يأبه لأسئلتي تلك أو يستمع لها، و قد كنت كثيراً ما أجد نفسي على سطح منزلنا أتمشى أو أسند رأسي على الجدار سابحةً في الأفق البعيد، تتلاطم في نفسي أمواجٌ من الأسئلة عن الوجود و الحياة و الموت والله، إلى ما لانهاية له من الأسئلة التي يصعب إيجاد أجوبةٍ لها.

و قد كانت إحدى هذه الأسئلة الكثيرة، سؤالٌ لطالما طرح نفسه عليّ؛ ألا وهو: “ما الذي يميزنا نحن بني البشر عن بقية المخلوقات الأخرى كالحيوانات و غيرها؟”

بعد تفكيرٍ و تأملٍ و بحثٍ عميق في تلك المرحلة المبكرة من العمر، وجدت أن الله إنما ميزنا عن غيرنا من المخلوقات بالعقل أو الفكر، و الفكر إنما تصنعه اللغة، و لعلني وجدت في بعض الآيات القرآنية أدلّةً دينية استندت عليها بالإضافة إلى مجموعةٍ من الأدلّة الأخرى الفلسفية منها الأدبية و الاستدلالية كي أقنع بها نفسي بطريقةٍ أقرب ما تكون إلى المنطق حينها، و قد كان من هذه الآيات قوله تعالى: “اقرأ باسم ربك الذي خلق”، و” علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة”…صدق الله العظيم.

من هنا و منذ ذلك الحين بدأت تظهر بذور حبي الفطري للغة، ليس كلغةٍ مكونةٍ من أصواتٍ و قواعد، إنما كأداةٍ للتفكير و التحليل و الشك و النقد و منه الوصول إلى اليقين و الإيمان المطلق.

منذ بدايات طفولتي المبكرة كنت فتاةً هادئة صامتة، و قد كنت أميلَ ما أكون إلى البقاء وحدي، لم أحبّ يوماً المناسبات الصاخبة و لا الأماكن التي يتكتّل فيها الكثير من النّاس.

علاوةً على ذلك لم أكن أحبّ الخروج من البيت إلا للضرورة، كما لم أفضل يوماً اللعب مع أقراني الأطفال، حتّى أنّ والديّ شكّا بأنّني قد أكون مصابةً بطيفٍ من أطياف التوحد لولا أنني كنت قد تعلمت النطق باكراً على نقيض الأطفال المصابين بهذه المتلازمة.

اقرأ أيضاً: إفتاء أعزاز يتخذ إجراءات بحق من يسب الذات الإلهية

و قد كنت منذ تلك الأيام أهرب من ضجيج الأطفال و ألعابهم التي كانت تافهةً في نظري إلى زاويةٍ في غرفة الضيوف التي كانت تحوي مكتبة أبي الضخمة التي كانت تضمّ الكثير من الكتب و المجلات المتنوعة كالقصص و الروايات و الشعر و التاريخ و الفلسفة و غيرها من العلوم و الآداب،لطالما احتوتني تلك الكتب بين صفحاتها و احتضنتني بين حروفها التي لم أكن أفهم الكثير منها في تلك المرحلة المبكرة من العمر.
قرأت قصص الأطفال بنهم، ثم انتقلت إلى جبران خليل جبران و نزار قباني و محمود درويش و الجاحظ و بعض كتب التصوف و غيرها الكثير.

لم أكن أقرأ بدافع العلم فقط إنما كنت أشعر أنّ هذه الكتب عائلتي، أنّ اللغة بحروفها و كلماتها أصبحت ملاذي و سكني، كونت صداقاتٍ معها و رأيت التعامل أصدق معها أسهل و أصدق من بني البشر، و حتى الآن لم يخب ظني قطّ.

لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا

من يومها و حتى هذه اللحظة كانت اللغة العربية صديقتي الأقرب و الأعز في زمن ” البيست فريند” و ما شابهها من ترهات، إذ كانت أنيستي في أيام السهر و الوحدة.
تريحني في أيام التوتر و الامتحانات، ألوذ إليها عندما تصعب عليّ فكرةٌ أو فقرة، ترياقي في أيام المرض و السّقم، رفيقتي في أيام الحزن و الشوق الذي كان يأكل قلبي في بعض الليالي و الأيام.

كانت اللغة شجاعتي في أيام القصف و الخوف من الموت أو الفقد، عندما كان جميع من في الملجأ ينام و أعجز وحدي عنه، كنت ألوذ وحدي إلى أوراقي و كتبي حتى تقاسمني السهر.
كانت منزلي في أيام النزوح، عندما خانتني كلّ جدران البيوت التي أحببتها و تمنيت ألا أتركها لكنها هي من تركتني، عشرون بيتاً قطنتها و تنقلت بينها لم يكن يتبقى لي منها سوى حفنة ذكرياتٍ في قعر الذاكرة و هذه الكتب و الدفاتر التي كنت أُوضِّبُها و أحملها معي من منزلٍ إلى آخر.

كانت هذه اللغة وطني و هويتي في أرضٍ لم أشعر أنها وطني يوماً، كانت وطناً آخر مسالماً، بعيدٌ كلّ البعد عن هذا الوطن الكاذب الذي أرهقته الحروب و السياسة و الاصطفافات.
كانت هويتي و انتمائي الوحيد بعد أن أعلنت لعنتي على كلّ الانتماءات الأخرى و فقدت ثقتي بالعروبة و العرب أجمعين.

اللغة أو العربية كانت و ما زالت حضناً دافئاً… دافئاً جداً، عوضني عن كلّ البرد الذي أراه في الخارج.
في الثانوية العامّة كما في كلّ مراحل دراستي السابقة و اللاحقة، حصلت على علامةٍ تامّة في امتحان اللغة العربيّة/الفرع العلميّ بدون الحاجة إلى مدرسةٍ أو معلم أو حتى دورةٍ خاصة، كما كان يفعل بقيّة الطلاب؛ إلّا أنني رغم ذلك و رغم عدّة خياراتٍ أتيحت لي قررت دخول قسم الأدب الانكليزي في كلية الآداب علّي بهذا أفتح فكري و روحي على آفاقٍ و دروبٍ جديدة، أوسع من تلك التي ستتاح لي عند دراسة اللغة العربية، سواءً على المستوى المعرفيّ كاكتساب لغةٍ ثانية و اكتساب ثقافةٍ جديدة، أو على مستوى الحياة العملية حيث فرص العمل أكثر و أفضل.

اليوم، بعد ثلاث سنواتٍ من المعاقرة و المعافرة و معارك الكرّ و الفرّ مع دراسة اللّغة الانكليزية في الجامعة
أراني أشدَّ ما أكون في شوقٍ و احتياجٍ إلى اللغة العربية.
الانكليزية لغةٌ رائعة، مذ بدأت في دراستها و حتى اليوم تعمّقت فيها في دراسة النحو و الترجمة و الصوتيات و علوم اللغة و تاريخها و قواعد الكتابة و القراءة و المحادثة إضافةٍ إلى قراءة و تحليل و دراسة الكثير من الروايات و المسرحيات و القصائد التي يطلب منا دراستها طوال سنوات الدراسة.
في اللغة الانكليزية تدرس شكسبير، أو بالأحرى يجب أن تعرفه مثلما تعرف نفسك و ربّما أكثر، أليس هو أبا الأدب الانكليزي؟!

يجب أن تحفظ تاريخ ميلاده كما تحفظ تاريخ ميلاد أولادك و تاريخ وفاته أيضاً، و بالطبع من المفروض عليك حفظ أعماله و تاريخ حياته لأنه مرجعك و قدوتك و مِشكاتك التي تمنحك النور في دراستك الأدبَ الانكليزي.
إضافةً إلى شكسبير، تتعرف إلى كثيرٍ من الكتاب الآخرين الذين ربّما قد تكون سمعت بهم أو لم تسمع من قبل، مثل: دانيال ديفو، آرثر ملير، آرنست هيمنغواي، كريستوفر مارلو، توماس هاردي و غيرهم كثير.

رغم كلِّ ذلك، رغم كلّ مميزات هذه اللغة، إلا أنني أراها لغةً جافة، كلّما نبشت أغوارها و تعمّقت فيها أكثر تيقنت أكثر فأكثر أنّها لغة العمل و المادة، لغة الاختصار و التكنولوجيا، لا لغة العاطفة و الروح و الكتاب المقدّس كما هي اللغة العربية، الانكليزية لغة البرد و الجدّ بينما العربية تحيي القلب ربيعاً و دفئاً.

ثلاث سنواتٍ مع اللغة الانكليزية و ما زلت كلّما أتيت أتحدّث أو أكتب باللغة الانكليزية التي صرت جيدةً فيها، شعرت بالغربة تضرب أعماق أعماق نفسي، شعرت باللاانتماء و البرد و الخوف، إذ لطالما كانت و ما زالت العربية وطني و سكني و أنيستي من الوحدة و الوطن و الحرب و الغربة في الخارج، فكيف لا أشعر بالغربة و الارتجاف عندما أغادرها و أستخدم لغةً أخرى؟

العربية كانت و ما زالت صمّام الأمان و الانتماء الوحيد الذي ما زلت أؤمن و أحتمي به، فكيف أستبدلها بلغةٍ أخرى بكلِّ بساطة؟!
ألم يقولوا دائماً أنّه من الحبّ ما قتل، فهل التعلّق بلغةٍ ما هو نوعٌ من أنواع هذا الحبّ أو صنفٌ من أصنافه؟!
من يدري، ربّما في يومٍ من الأيام قد أحلُّ عقدتي و تعلقي هذا، ربّما سأتعلم لغاتٍ أخرى كثيرة، لكنني مع ذلك سأحتفظ بعربيتي في صندوقٍ أضعه في أعماق روحي، صندوقٌ عزيزٌ مرتبطٌ بحبلٍ سريٍّ مع ذكريات الطفولة البريئة و الأحداث الجميلة النادرة في هذه الحياة، أعود إليه لأنهل منه كلّما أرهقتني الأيام و خانتني دروب الحياة، أعود إليه إذا ما خذلني كلُّ شيءٍ، سأبقى أبحث فيه حتى أطمئن و أهرب فهو أحد البقاع السرية النادرة الأكثرِ أمناً ودفئاً في هذا العالم.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط