ما بعد الربيع، “المرحلة الثانية” صيف حارق وخريف قصير وشتاء متوحش

أحمد وديع العبسي

1٬195

مع الإطباق الكامل على التجربة التونسية يكون الربيع العربي قد نُعي تماماً، فشلٌ كامل لجميع محاولات الثورة في المنطقة، وانتصار غاشم للسلطات القائمة ومنتجاتها الجديدة، وإعادة صناعة الديكتاتوريات بشكل أكثر قسوة وأقل صلابة.

لقد تمّت هزيمة الشعوب في المرحلة الأولى من الحراك الثوري، وتمّت إبادة الربيع بقسوة عارمة لا تشبه أي إبادة سابقة لحركات مشابهة في عالمنا العربي، وتكاد تكون هذه العملية التي امتدّت على كل أرجاء الصفيحة العربية المتحركة سياسياً إذا جاز التعبير هي الأقسى منذ عقود طويلة بما فيها عقود الاستعمار الأجنبي، فمن اليمن إلى سوريا والعراق ولبنان مروراً بمصر وليبيا والسودان ووصولاً إلى الجزائر وتونس، وبعض الحركات التي تمّ التعامل معها سريعاً في البحرين والمغرب، استطاعت الأنظمة القديمة تحقيق انتصار ساحق على الشعوب، واستطاعت حتى الأنظمة المتهالكة منها من إعادة أنتاج نفسها بطريقة أكثر عنفاً وقسوة وإن كانت أقل صلابة من سابقاتها، ولكن ربّما هذا لا يغير شيء في المعادلة، لأن الصلابة في بعض الأحيان تجعل الانكسارات أكثر قسوة، والهيكليات الهشة، تتمتع بمرونة ومساحات داخلية تحميها من الانهيار السريع، وتسمح بإعادة توزيع مراكز القوة من جديد، وربّما هذا هو الشيء الوحيد الذي نجحت الثورات في تحقيقه، والذي يتمثل في تغيير البنية الداخلية للنظام العربي، وجعلها قابلة للتآكل المستمر من الداخل، ما سيجعله أقل قدرة على التعامل مع مواجهات جديدة في المستقبل. إن استطاعت الشعوب فهم المعادلة الجديدة، وإن استمرت الأنظمة بالغفلة والتغافل عن العيوب التي لحقت بها جرّاء المواجهة.

لقد تمّ كسر غالبية الحركات وهدم العديد من المؤسسات التي كانت تمثل الحراك الشعبي، كما تمّ تحطيم عدد كبير من الرموز الدينية والوطنية سواء بفعل ثوري أهوج أو بتخطيط منظم من الأنظمة المسيطرة، وبالتالي أصبحت المواجهة مكشوفة تماماً بين الشعوب وبين الأنظمة، لم يعد هناك أي أحد من الممكن أن يلعب دور الوسيط أو المفاوض الذي يستطيع امتصاص الغضب الشعبي فيما لو حصلت مواجهات قادمة، أو ترتيب مطالب الجماهير بطريقة قابلة للتحقق، لذلك فإن أي مواجهات قادمة ستكون فوضوية ومجنونة وبلا قيادة، ودون وجهة واضحة، مواجهات غايتها التدمير تتآكل داخلياً مع للوقت على طرفي المواجهة، وستكون التجربة السورية هي نموذجها المصغر، مواجهات مدمّرة وطويلة وغير حاسمة ولا محسومة، وهذا الأمر قابل للحدوث في كل دول الصفيحة السياسية المتحركة التي أشرنا إليها بما فيها سوريا مجدداً.

في ذلك الوقت ربّما لن تتمكن نماذج الديكتاتوريات الجديدة التي برزت في المنطقة من السيطرة على الموقف والنجاح في الحفاظ على مكتسباتها، فهي وإن كانت ستتعامل مع الوضع بقسوة مفرطة، ولكنها بنفس الوقت ستواجه سيولاً بشرية غير مترابطة ولا تتأثر بتلك القسوة، ستحدث جرائم إبادة كبيرة، وسيتسرب الضعف إلى البنى الهشة الجديدة، ولن تتمكن من إعادة السيطرة إلا بخسارة أجزاء كبيرة من مصالحها لصالح بنى جديدة صاعدة أو دول خارجية داعمة، وبالتالي مزيد من الفوضى والتعقيد في المنطقة.

إن الإصرار الأهوج والخطأ العقيم الذي ارتكبته الأنظمة بقرار إنهاء أيّ تنظيمات واضحة تستقطب الحراك الشعبي جعل المهمّة القادمة صعبة جداً على الطرفين، على الشعوب من ناحية أخذ القرار المجنون في ثورة عارمة دون أي قيادة أو أهداف واضحة، وعلى الأنظمة في عدم وجود قيادات تتفاوض معها وتقدّم لها بعض التنازلات إذا حدثت الكارثة، وبالتالي ستكون الكارثة كبيرة حتى تنشأ مع الوقت بنى هامشية جديدة، ويتم قتل قدرة الشعوب على المتابعة، وهذا سيتطلب وقتاً ربّما لا يسعف الهيكليات الجديدة للأنظمة المستبدة الأكثر هشاشة، والتي لن تحتمل غالباً ضربات قوية كالتي احتملتها في نماذجها السابقة.

الدول نفسها هي المرشح الأكبر لإعادة إنتاج الفوضى وإعلان المحرقة القادمة، ربما تتقدم مصر قليلاً في الاحتمالية، ولكن بقية الدول لها فرص مشابهة، فلم يعد الوضع كما كان من قبل، ولم يعد المناخ العالمي متوازن كما كان سابقاً ولقد تغيّرت الكثير من العوامل التي ربما نستطيع إن فهمناها خوض معركة مختلفة وأكثر جدوى.

لا أحاول من خلال هذا المقال أن أدعو لثورات قادمة، ولكن أحاول أن أقرأ إلى أين يمكن أن تفضي الثورات فيما لو حصلت، ويبقى الأمل بحدوث تغييرات طفيفة تستطيع من خلالها الشعوب التقاط أنفاسها، وتتخلى الأنظمة عن بعض مكاسبها في سبيل حلول مرحلية لا غالب فيها ولا مغلوب، يتم من خلالها إعادة انتاج قوى ممثلة للشعب بهدوء، وتقديم بعض التنازلات من كل الأطراف بشكل يجنب المنطقة زلزالاً جديداً سيكون فيه الموت هو العنوان اليومي والمعتاد لعشر سنوات قادمة …

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط