الخروج من المأزق السوري، كيف نتحرك جميعنا للحلّ في كل سورية

أحمد وديع العبسي

1٬265

يبدو العنوان حالماً جداً بالنسبة لمقالة واحدة، ولكنني أعتقد منذ فترة طويلة أن الخيارات غير التقليدية في السياسة هي خيارات بسيطة وناجعة، ذلك أن السياسة هي فن البحث عن المفاجأة وغير المتوقع والجرأة والمبادرات المربكة، أمّا سياسة التحرك وفق الأطر التقليدية والمبادرات المتوقعة، فهي سياسة تولد ميتة، ذلك أن ما يعيقها موجود بذات السهولة التي توجد فيها هذه السياسة، وإن الأطراف المتشابكة غالباً تكون جاهزة لهذا النوع من السيناريوهات التلقائية، التي تجعل كل فريق أكثر استعصاء وثباتاً في الجهة التي قرر أن يتخندق فيها، وعادة ما يكون هدف هذه السياسة هو إطالة زمن أي أزمة، وتعميق المأزق الذي وصلت إليه، لا البحث عن حل أو عن مخرج ممكن.

إن الخروج من حالة السكون والخنادق هو خروج يحمل خطورة كبيرة، ولكنه الأمل الوحيد في تحقيق تقدم تجاه التغيير والأهداف، بينما الإصرار على الانتظار و(الممانعة) والرفض والصراخ دون البحث عن بدائل ممكنة وحيوية، هو حالة من المنازعة السلبية في انتظار الموت.

إنني أعتقد، من وجهة نظر شخصية على الأقل، أن هذا الانتظار هو خيانة للوطن، وخيانة للقيم وخيانة لحركية الحياة، وخيانة لدماء الشهداء ولقضيتهم المقدسة، فالتضحيات العظيمة لم تُقدم في سبيل الانتظار، وفي سبيل السكون، بل من أجل العمل والدأب وتحقيق الأهداف وإحداث ولو خطوة واحدة في طريق التغيير المنشود، وإن من الخيانة أن تكون هذه التضحيات قد أصبحت سبباً لتعاسة الناس ولمأساتهم بسبب تخاذل القائمين عليها، بدلاً من أن تكون سبباً لسعادة الناس وحريتهم وخلاصهم.

إن إيجاد حل للخروج من حالة الاستعصاء التي وصلت إليها القضية السورية هي فريضة العمل السياسي، وعلى السياسيين أن يعملوا من أجل فهم الواقع وإيجاد أي مخرج ممكن، عجزت عنه حتى الآن كل الوسائل العسكرية والاجتماعية والسياسية السابقة.

إن هذه المقدمة الطويلة تفضي بشكل مباشر لما بعدها، فالمأزق السوري أصبح يحتاج سياسيين يتمتعون بالشجاعة الكافية لكسر كل المُسَلَّمات عن القضية السورية، وللدخول في تحديات جديدة تشمل كل المبادرات الممكنة مهما كانت غريبة ومتطرفة سياسياً، ليس أولها الجلوس في حوار مباشر مع نظام الأسد بدون وسطاء، ولن يكون آخرها التفاوض حول بقاء الأسد لمرحلة انتقالية في سبيل تحقيق أهداف أكثر عمقاً وأهمية.

إن مواقف أقرب الدول للشعب السوري تتغير بتسارع لا تستجيب له المعارضة حتى الآن، وإذا لم تعمل المعارضة على الاستجابة لهذه التغيرات ومحاولة إيجاد موقع لها على الطاولات الجديدة، فستبقى وحيدة بعد فترة قصيرة، معارضة متشتتة في المنافي لا تجيد إلا لوك الشعارات وتأبين الضحايا.

إننا اليوم نتعامل مع قضية إنسانية كبيرة تتمثل في وجود 10 ملايين سوري نازحين داخل سوريا ولاجئين في دول الجوار، تهدد حياتهم اتفاقيات، ربما لا تأخذ بعين الاعتبار أوضاعهم الأمنية الخاصة، وليس من الحصافة ولا السياسة أن يتركوا لمصيرهم في الموت والتعذيب، حتى لو أبدوا هم الشجاعة لفعل ذلك من أجل حريتهم، لأن مهمة السياسي إنقاذ شعبه لا الانسياق وراء العواطف الجياشة ودعوات الصمود والموت المجاني الذي لا يرتجي إلا الهروب من عذابات أكثر قسوة، أو النزوع نحو فقاقيع من أمجاد منفوخة بالتاريخ والتراجيديا والرومانسية، لا تحمل معها أي قدرة على التغيير.

من جهة أخرى لا يمكن أن يستمر النظام السوري في التعاطي مع الحرب بطريقته المعتادة، لأنه لم يعد يسيطر على مفاصل الدولة ولا على قرارها وإن كان يدَّعي ذلك. فتحويل سوريا إلى دولة للمخدرات، ودولة تبتز أصحاب رؤوس الأموال وتفرض الإتاوات لن ينقذها من الجحيم الاقتصادي والمعيشي الذي تمر به، لأن ما يفترضه النظام حلاً هو تكريسٌ للمشكلة والدمار والتخريب، وتعميق للقطيعة الاجتماعية والسياسية، واقتراب من الهاوية بشكل أكبر، فالدولة المارقة لن تستطيع الاستمرار طويلاً في هذا العالم، ولن تستطيع إيجاد حلول للأزمة، بينما التنازل للناس والاستجابة للتغيير وللحوار السياسي سيكون مكسباً للجميع، وسينقذ سوريا قبل كل شيء، سينقذ الشعب السوري الذي تخطى بمجمله عتبة الفقر بمراحل عديدة، ويعاني أسوأ حقبة في تاريخه.

إن النظام يعلم أنه على عتبة الاستبدال، ويحتاج معجزة لكي ينجو من هذه العتبة، فالأولويات الروسية لم تعد في سوريا، وإيران تستميت اليوم من أجل عرقلة التقارب التركي مع النظام السوري، لأنها تعلم أن ذلك سيكون الخطوة الأولى في إخراجها من خارطة الصراع، وهي تحاول إقناع النظام بأنها تمثل الحليف الأفضل الذي لن يتخلى عنه، لأن لديها مشروعاً ديموغرافياً يتقاطع مع أيديولوجيا الأسرة الحاكمة.

من المفترض أن يعلم النظام أن إيران تحاول أن تطيل عمره لكي تكسب الوقت من أجل مشروعها، لا لكي تحميه، بل لتصبح أوراقها أقوى على الطاولة، ولكي تتغلغل أكثر في المؤسسات السورية وفي المجتمع السوري بما يحميها من قوة الضربات القادمة، وعندما يحين الوقت ستكون أول من يتخلى عن النظام من أجل ترسيخ مصالحها الديموغرافية في المنطقة. فهي تحاول أن تدعم النظام ليكون ورقة في يدها بدلاً من أن يكون ورقة في يد روسيا أو تركيا.

لم تعد هناك مساحة كافية للنظام ليتصرف بغباء أو سذاجة سياسية، وعليه أن يدرك أن أنقرة أعادته إلى دائرة الاهتمام، ولكن لن يكون ذلك دون مقابل، فحتى حلفاء النظام أعادوا تقييمه بعد عرض أنقرة الدبلوماسي، وبقي على النظام أن يختار بين تحالفات مؤقتة ومتهالكة مع دول ضعيفة، وتحالفات قويةٍ أساسها التحالف بين السوريين من جديد.

التقدم الميداني والنصر على الأرض أوهام كبيرة، يعلم النظام أنه لا يملك منها أي شيء، وإن الدول الراعية التي حققت للنظام نصره المزعوم، هي الدول التي أخرجت النظام من اللعبة السياسية تماماً، كما أخرجت الشعب السوري والمعارضة من اللعبة ذاتها، إن هذه الدول التي انتصرت على الشعب السوري لن تستجيب- ولو للحظة- لإرادة نظام منتهي الصلاحية، وإنما ستحاول استخدامه وابتزاز السوريين به لأطول فترة ممكنة.

أعتقد أن النظام السوري يعيش ساعاته الأخيرة، إذا لم يستجب لتغيير سلوكه السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي، وإن مماطلته ستجعله شريكاً غير مرغوب في استمراره، واختياره لإيران سيجعله ورقة منتهية تماماً تنتظر أن تقدمها إيران لشركائها الإقليميين من أجل مصالحها، بينما هو الآن يملك أن يقدم نفسه بنفسه، وهذا ما يجب أن يدركه النظام ويتحرك تجاهه.

على النظام أن يتحرك سياسياً، وألا يختار الانتحار وتدمير ما تبقى من البلاد، فلا يوجد من يستطيع إنقاذه حالياً إلا الاستجابة لمتطلبات التغيير مهما كانت قاسية. وإنَّ رفضه للمفاوضات والتغيير السياسي (في السياق الحالي) سيكون أكثر اللحظات حمقاً في تاريخه.

إن المعارضة السورية تمر بالأجواء المشحونة نفسها، وإن لحظة الضعف المشتركة ربما تكون لحظة لقاء جيدة من أجل إيجاد حل للسوريين بأيديهم، والملفات الإنسانية (المعتقلين وفتح الطرق) ملفات جيدة للبدء بتبادل الثقة، وإذا أصرّ النظام على عناده في هذه النقطة فهو يصرّ على زواله، ولكن بفاتورةٍ أكثر تكلفة للجميع، وربما يكون السوريون فيها هم الخاسر الأكبر.

لا يمكن لعجلة التاريخ أن تعود للخلف، فالتغيير أصبح حتمياً، ولكن نحن فقط، في كل جهات هذا الوطن من نستطيع تحديد كُلفته، وأعتقد أنه علينا أن نتوقف عن اختيار الدماء ككُلفة غير منتهية لهذا التغيير، فضلاً عن كونها كُلفة ذات أبعاد انتقامية ستقف عائقاً في سبيل أي بناء محتمل للبلاد.

إنني لا أريد أن يفلت أي مجرم من المحاسبة، ولكنّ السياسة أحياناً تفرض علينا أن نؤجل الحسابات أو أن نلغيها من أجل خيارات أفضل للجميع، وهذه فرصة لكي يعيد المتورطون حساباتهم، ويعملوا على إصلاح ما يمكن إصلاحه قبل الوصول إلى الدمار الكبير.

والعدالة المثالية هي قيمة غير متاحة في عالمنا هذا الذي لا يهتم إلا لمصالح الأقوياء فيه، وقيم المصلحة فيه مقدّمة على القيم الإنسانية، وأعتقد أن هذا واضح جداً، فعالم يقع أمامه أكثر من مليون قتيل ومئات آلاف الجرحى والمغيبين والمعتقلين، ولا يحرك ساكناً باستثناء التصريحات المتأسفة على المذبحة المتواصلة والإبادة التي يتعرض لها الشعب السوري من قبل روسيا وإيران والنظام حفاظاً على توازنات ومصالح لا تضع أي قيمة للبشر في موازينها، هو عالم لا يرغب بالعدالة، ولا يعمل من أجل الإنسان، وإنما من أجل خدمة من يمتلكون القوة، وفي سياق عنصري بحت… لذلك لا بدّ من بعض التنازلات والتضحيات الشجاعة من أجل إيقاف الحرب والاتفاق على الخطوة القادمة.

أعتقد أنه من العقلانية أن نتوقف عن التفكير بالشهداء، مقابل التفكير بالحياة، فمصير المعتقلين الذين يتجرعون الموت كل يوم دون أن نستطيع منحهم أملاً بانتهاء المعاناة أو حتى الشهادة، هو ما يجب أن يشغل تفكيرنا ويقود عملنا السياسي في الفترة المقبلة، كما علينا أن نفكر بمصير ملايين الناس التي يمكن أن تموت إذا بقينا نتمترس خلف خيارات حمقاء لن تستفيد منها سوى القوى المحيطة بنا، والتي تبني مخططاتها على موت السوريين.

إنني أعتقد أن القوة الرئيسية التي يمكن التعويل عليها في هذا الوقت هي وحدة السوريين على كامل الأرض السورية؛ وحدة من تجمعهم المعاناة مهما اختلفت الجغرافيا التي يسكنونها، ومهما اختلفت القوى التي تتحكم بمصيرهم.

أستطيع أن ألمح بوضوح دموع نازحي الخيام على الأطفال المشردين في شوارع دمشق وحلب وهم يحاولون إيجاد ما يسد رمقهم في مكبات القمامة، كما أنني أستطيع سماع أنين المتعبين من البرد والجوع في اللاذقية وحماة وحمص ومدن الشرق وجعاً على من يقاسون ذات الجوع والبرد في مخيمات الشمال ومدنه الباردة.

إن الشعب الذي تقتله العذابات ما زال ينتمي لذات الهوية والتاريخ والثقافة، لن يتغير السوريون بفعل السياسة والسياسيين، والجميع لا يرغبون باستمرار القتال. وإننا أمام فرصة لتقديم البنية الاجتماعية كبديلٍ عن البنى الحاكمة في المناطق ذات النفوذ المختلفة، فالشعب السوري ما زال موحداً وقادراً على الالتقاء من جديد رغم كلّ ما مرّ به.

لا يمكن الاستمرار في تجاهل مطالب الناس بعد أكثر من إحدى عشرة سنة على الأزمة في البلاد، كما لا بدّ من القبول بالتغيير،  فالأشياء لا تثبت على حالها إلا إذا ماتت وانتهت، والفناء نفسه يتلاشى ولا يقيم على الصورة التي وصل إليها.

وأولئك الفاسدون الذين اعتادوا على تخوين كلّ من يقف في وجه أطماعهم، يجب أن نجعلهم ضحية الخطوات القادمة، يجب أن يبدأ الناس في محاربة الفساد، وفي الوقوف بوجه الفاسدين، ويجب أن تفهم الدولة أن التغيير سيكون أمراً واقعاً لا يمكن تجاوزه.

نحتاج أن نكون أكثر جديةً في المفاوضات، نحتاج أن نطوي الصفحات القاسية التي تعرضنا لها بإرادة من يملكون المبادرة اليوم، من أجل ألا تُطوى عليهم في القريب العاجل؛ لأن الاستمرار في تجويع الناس وزيادة معاناتهم سينفجر قريباً كمأساة لن يستطيع أحد تحمّل تبعاتها.

إنني لا أحاول أن أقنع أحداً بالتخلّي عن الحق والعدالة والحرية، ولا أريد أن يتوقف النضال في سبيل هذه القيم مهما تغيرت الظروف، ولكنني في كل ما أكتب أحاول أن أتخطى هذه المرحلة العقيمة، أحاول أن أطالب الجميع بالتحرك خطوة واحدة، وفي أي اتجاه، أحاول أن أشرح أن الصراخ لا يغيّر المعادلة، وإن الأساليب القديمة لم تعد تنفع لصنع التغيير، والسكون واللافعل لا يمكن أن يستمر، والتمترس خلف المواقف دون قدرة على إنفاذها هو تمترس حول الموت، بينما نحن نحتاج أن نستعيد إرادة الحياة، نحتاج أن نفعل أي شيء لكي نخرج من المأزق الذي وقعنا فيه والذي يستنزفنا جميعاً دون أي مقابل.

أريد أن أنقذ الناس من أحلامنا، لكي يتمكنوا من صنع أحلامهم التي يؤمنون بها، فهم الضحايا، وهم من يُفترض أن نفكر بهم، ونعمل لأجلهم، فلا قيمة للنصر الذي يكون على أكوام الجماجم والأجساد وركام الوطن.

إننا اليوم أمام تحديات قديمة جديدة، أضعنا ما يكفي من الوقت في عالم الأحلام بحثاً عن معجزة لا تضطرنا لأخذ مواقف قد تشوه التاريخ الناصع الذي كنا نبنيه لأنفسنا حجراً حجراً، ولكن الحقيقة التاريخية تخبرنا أن الإنجاز لم يكن يوماً مبنياً على أساسات ناصعة، لذلك علينا أن نكون شجعاناً بما يكفي لبحث جميع الخيارات المطروحة دون استثناء من أجل الوصول إلى حل (مرحلي) يمنحنا خطوة واضحة نحو الأمام، حتى لو كلفنا ذلك أن نضع أيدينا باليد الملطخة بدمائنا، سننجز هذه المهمة، ثم سنتحمل آلام قطع تلك اليد من أجل خطوة أخرى.

إنني أمدّ يدي في الاتجاهين، أريد أن أصافح نفسي التي تقع على جهتين من هذا الوطن ولست معنياً بعدد الذين سيتهمونني بالخيانة، ولكنني معنيٌّ باستعادة الابتسامة الجميلة على وجوه أبناء وطني، معنيٌّ بالخروج من جحيم الضياع الذي نعانيه، معنيٌّ بالتغيير القادم لا محالة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط